قصة «البحر أمامكم» (2021) للمخرج إيلي داغر بدأت قبل جلوسنا على مقاعدنا وظهور الضوء على الشاشة، ولم تنته مع خروجنا من الصالة. العودة إلى بيروت ليست سهلة. وفي حالة جنى (منال عيسى)، الأمر أكثر تعقيداً. عودتها إلى مدينتها بعد سنوات في باريس ثقيلة كثقل الهموم التي تحملها. العودة كانت مفاجأة لوالدتها منى (يارا أبو حيدر) ووالدها وسام (ربيع الزهر). أملت جنى أن تكون عودتها إلى بيت أهلها ملاذاً، لكن في بيت العائلة تبدأ باخرة الفيلم بالإبحار في العاصفة. الضغوط التي تطاردها للعودة إلى حياة أسرية والكشف عن تفاصيل حياتها في الخارج تثقل كاهلها. الركود واللاحلول يُشعرانها بالضيق، مصيرها ومصير بيروت غامض، والمشكلات العائمة على أمواج الضباب تظهر مخاوفها وقلقها، ما يدفعها إلى العودة إلى الذات والعثور على شيء يمكن أن يصلح علاقتها مع المدينة ومع ذاتها. داغر لا يحب البوح، ويفضل عدم التوضيح، يبقى كل شيء مكبوتاً مثل المدينة التي نعيش فيها. لذلك نغمة الفيلم الميلانكولية والكئيبة هي في مرتبة ميتافيزيقية، بعيدة المنال لكنها حقيقية للغاية. تغيرت المدينة كثيراً بالنسبة إلى جنى، غطت المباني كل شيء حتى البحر، والمستقبل يزداد ضبابية. بأسلوب وجودي كلاسيكي، يقودنا داغر إلى مواقف معقدة لا ننفصل عنها عاطفياً أبداً. قضايا لا تنطق بسهولة، شيء متعلّق ببيروت، ونبقى معلّقين مع المدينة وجنى كأننا في مكان آخر، لسنا من هنا ولا نعرف تماماً أين سنذهب، أو إذا كنا سنصل. ما نراه على الشاشة هو انعكاس لكل هذا، يبدو البحر كأنه المستقبل وفي الوقت نفسه هو التهديد. «البحر أمامكم» هو نظرة على واقع بلد معقد للغاية، بفيلم مزاجي فيه حقائق ملموسة ينقل به داغر القلق الذي يكتنفه ويكتنف كل من يعيش في هذه المدينة.
في «البحر أمامكم» يأس وفراغ وجودي، ميلانكوليا تبتلع الشخصيات والمدينة وتبتلعنا. شبح أبيض يحوم حولنا بصورة حنونة فيها الكثير من العنف الداخلي المكبوت. يعيش الفيلم على أنقاض الماضي، والطريق هو الأساس. أما النهاية أو البداية، فلا مكان لهما. جوهر الفيلم كمن في الصراعات الحتمية العقيمة التي لا يمكن لأحد علاجها ولا يمكن وضع حد لها، والبحر باعتباره الرمز العظيم للفيلم، ليس كأفق واعد، بل كمستقبل مليء بالرعب. ترتدي بيروت وجنى قناع اللامبالاة على الرغم من اكتئابهما الذي لا يتزعزع. محاصرتان بذكريات الماضي ولوم الذات، وغير قادرتين على المضي قدماً.
دراما نفسية غامضة وقصة مصنوعة بإدراك


في باكورته الروائية، يقدم إيلي داغر بيروت كمدينة مبعثرة، شابة متعبة، في فيلم جميل بشكل مخيف، دراما نفسية غامضة وقصة مصنوعة بإدراك. فيلم يعرف كيفية المضي قدماً بينما يعرج على الماضي ويغازل التاريخ ويتنبأ بالخطر. صوّر إيلي داغر الفيلم قبل انفجار 4 آب، ولكن كل شيء فيه يشبه بيروت وسكانها بعده. كل شيء دقيق، قيّد داغر الحوارات، نص مختصر، لا كلمات عبثية، لا عبارات غير منطقية والمقصد مباشر. لم يترك شيئاً للمصادفات والارتجال.
كل شيء مدروس للتقدم بالسرد. والنتيجة فيلم من أجمل وأهم الأفلام اللبنانية على الإطلاق. بداية واعدة لمخرج لبناني لديه رؤية وأسلوب سينمائي خاص.

* «البحر أمامكم» في الصالات ابتداءً من 23 حزيران (يونيو)