مبتعد كان جان لوي ترينتينيان (1930 ــ 2022) عن الحشود الصاخبة والأضواء منذ زمن. ظهر عام 2017 في «مهرجان كان» حيث قدّم فيلم «نهاية سعيدة» لمايكل هانيكي، ثم عام 2019 ليقدم «أجمل سنوات الحياة» لكلود لولوش، وهو الجزء الثاني من الفيلم الشهير للولوش «رجل وامرأة» (1966 – سعفة كان الذهبية)، حيث أعاد لولوش، ترينتينيان وأنوك إيمي ليكملا قصة حبهما التي بدأت قبل أكثر من خمسين عاماً. قال عام 2018: «لم أعد أحارب سرطان البروستات، تركت الأمور تحدث، فأنا ميت منذ 15 عاماً». لم تكن هناك حاجة للتوضيح أكثر عن كونه ميتاً، كان يُشير إلى مقتل ابنته ماري ترينتينيان (41 عاماً) على يد شريكها الموسيقي برتران كانتا في صيف 2003. معزولاً ترينتينيان كان في كروم عنبه، ينتج 20 ألف زجاجة نبيذ، مثل جده. وُلد عام 1930، في جنوب فرنسا، مثقف بالفطرة وخجله لم يمنعه من الذهاب إلى المسرح. ظهر للمرة الأولى على المسرح عام 1951، وبعدها بخمس سنوات على الشاشة الكبيرة في «إذا كان كل الرجال في العالم» (1956) لكريستيان جاك، وفي السنة نفسها مع بريجيت باردو في فيلم «وخلق الله المرأة». بعد خدمة عسكرية مؤلمة في الجزائر، قام بتسميم نفسه ليتجنب التجنيد وانتهى به الأمر في المستشفى، واعتبرت فعلته خيانة. هذه الحادثة جعلته شهيراً وملتزماً بقضايا النضال ومناهضاً للفاشية وملتزماً بالسينما التي مثلتها. عاد ترينتينيان إلى الشاشة وأكمل ما بدأه وأصبح عملاق السينما الأوروبية.منذ بداية حياته المهنية، نقل ترينتينيان مخاوف الثقافة الأوروبية في عصره، وعلى الأقل الهواجس التي غذّت إبداع المخرجين الأوروبيين الذين عمل معهم كلهم تقريباً. ابن العائلة البورجوازية، كان اثنان من أعمامه من سائقي السباقات، وانعكس شغف العائلة على شخصيته في فيلم «رجل وامرأة»، إذ قام ترينتينيان بتغيير سيناريو الفيلم ونقل مهنة شخصيته التي لعبها من طبيب إلى طيار. عمل ترينتينيان مع الكبار، روجر ڤاديم («وخلق لله المرأة»، و«علاقات خطيرة»)، آبل غاس (أوسترليتز)، نينو روسي (إيل سورباسو) لولوش («رجل وامرأة»، و«أجمل سنوات الحياة»)، كوستا غافراس («قتلة المقصورة»، وZ)، برناردو برتلوتشي (ذو كومفورميست)، إيريك رومير (ليلتي عند مود)، فرانسوا تروفو (يعيش الأحد!)، كشيشتوف كيشلوڤسكي (ثلاثة ألوان: أحمر) وطبعاً مايكل هانيكي (حب) وغيرهم الكثير، ظهر في أكثر من مئة وخمسين فيلماً.
كان ترينتينيان يتحرك بمهارة بين الأناقة والصمت، بلياقته المهيبة وحزن مظهره، كان لديه ميل للشخصيات الغامضة غير القابلة للاختراق. كان هناك شيء مظلم لدى ترينتينيان، يدفعه دائماً إلى اختيار شخصيات غير متعاطفة وغامضة وكئيبة. كان عظيماً بشخصية الرجل الخائن أو المحتال أو المخيف أو الساخر. كانت سمته في وجهه الوسيم وصوته الرتيب الذي يشبه آلة التشيللو. عرف ترينتينيان كيف يختفي في السينما والمسرح خلف شخصياته ويجعلها موحية ومتحركة. فعل الشيء نفسه في حياته، لجأ إلى كرومه وانعزل بنفسه، هو قالها ذات مرة «السينما والنبيذ، فعلت الاثنين لطرد الجنون والموت»، نفس الموت الذي أدركه قبل أيام.