إذا نظرنا إلى المواقع التي اختارها جان أوستاش (1938 – 1981) لتصوير فيلمه «الأم والعاهرة» (1973)، نجد مكاناً واحداً يساعدنا على قراءة نقوش الفيلم المحفورة في عقول شخصيّاته حول أيار (مايو) 1968. المكان هو أحد المقاهي الرئيسية حيث يجري معظم الأحداث والأحاديث. إنه مقهى «لي دو ماغو» حيث يقضي ألكسندر (جان بيار ليود) وقت فراغه. وهناك يلتقي بفيرونيكا (فرانسواز لوبران)، التي سيبدأ معها علاقة. «لي دو ماغو» يقع في منطقة وجدت فيه الثقافة الفرعية الوجودية التي ازدهرت في الأربعينيات على الضفة اليسرى لباريس، بالقرب من شارع سان جيرمان وشارع بونابرت. عندما اختار أوستاش، بعد ثلاثين عاماً، وضع شخصياته في المنطقة نفسها، فإنه يؤرخ لتغيير، تحول في مناخ ثقافي، لأن شخصياته بعد ثلاثين عاماً، لا علاقة لها بأولئك البوهيميين الذين يحبون موسيقى الجاز والروايات السوداء، والملتزمين بالحرية والأرض الخصبة بالشعارات الثورية والأحداث التي كانت تجري في البلاد وقتها. ألكسندر، في لحظة، يصطف في المعسكر القديم ويعبّر من مرارته تجاه جيلبرت (إيزابيل وينغارتن)، عندما ترفض في بداية الفيلم العودة إليه، وهي توضح موقفها: «لقد عدت للعيش من دون أن يضطهدك الكرب. تعتقد أنك تتعافى عندما تعتاد في الواقع على الوسطية. بعد الأزمة، عليك أن تنسى كل شيء بسرعة، حذف كل شيء مثل فرنسا بعد الاحتلال، بعد مايو 68. أنت تُعيد تشكيل نفسك وتتعافى مثل فرنسا بعد مايو 68 يا حبيبي، هل تتذكر؟». «الأم والعاهرة» هو التحفة المبهرة التي تم صنعها حول شفق المثُل التي وعدت بها ثورة عام 1968. وأيضاً هناك شيء آخر مركزي بالقدر نفسه وهو سينما بمثابة أنثروبولوجيا ثقافية. لذلك يعتبر «الأم والعاهرة» دراسة أنثروبولوجية للمجتمع الباريسي بعد عام 1968. قراءة خط سير فردي ولوحة لعصر كامل، لقطة مقربة لثلاثة أفراد، ومتوسطة على مجتمعهم الصغير، وعامة على المجتمع الفرنسي في السبعينيات.
قصة «الأم والعاهرة» هي قصة ألكسندر، الشاب الذي يشعر، من دون أن يفعل شيئاً، أنه يتمتع بحياة كاملة. لا يعمل، لا يدرس، لا يصلي، لا يدّعي أنه فنان. تمرّ أيامه بسلام بين ملاءات شقة ماري (برناديت لافونت) وطاولات «لي دو ماغو» حيث التقى فيرونيكا. هدفه الوحيد هو عدم الارتباط بأي شيء وانتقاد غياب المثُل العليا لمايو 68، وميل معاصريه إلى المهن الحرة التي يمكنهم من خلالها أن يؤمنّوا سبل العيش. لكن الحقيقة أنه يبحث عن نساء برجوازيات، أو على الأقل لديهن منزل، لأنه لا يعمل، بل يعيش بفضل أموال ماري. الثلاثة هم رمز الحب الذي تغني له أديث بياف، ويكفي وجود مرتبة واحدة للثلاثة للعيش. مع ذلك، إنهم يشكلون مثلث الحب الذي يسعى كل منهم للهروب إليه من الوحدة. كل شيء يبدأ كلعبة بريئة، كلهم يلعبون للتلاعب بالآخر، والجميع يخسر. يقدم لنا أوستاش شخصياته على أنهم ورثة ثورة مايو 68، وربما أبطال، ناجون من حركة يظهر لنا أوستاش عواقبها بنظرة راضية تماماً. السيناريو عبارة عن تدمير وبناء وحيرة، «مع التحرير، هناك نوع من المساواة، الخادمات، العمال، النساء البرجوازيات... كلهم متشابهون، وفي النهاية لا نجد أي شيء» يأسف صديق ألكسندر. فشخصيات أوستاش نازحة تقع وسط اللامكان، وبالنسبة إليه، تحولت الأعمال الثورية إلى عبارات غير مجدية، وظلّ العنصر الوحيد المناهض للبرجوازية هو تلك المرتبة على أرضية شقة ماري التي يقرأ منها ألكسندر صفحات «لوموند» ويشاهد الأخبار.
«الأم والعاهرة» هو تلك الأفلام الطويلة القليلة (3 ساعات وأربعون دقيقة)، التي تخلق مسافة بين الصورة والكلمة. تجبر المشاهد على النظر بسذاجة إلى تلك المرآة الرائعة التي تسمّى الشاشة الكبيرة. كل شيء يحدث بطبيعية عظيمة، متحرّرة من القوالب التي تسعى الصناعة السينمائية لتجهيز نفسها بها. عنوان كبير في تاريخ السينما الفرنسية، لعبة مواجهات وخلافات حول شخصيات متناقضة. تاريخ أثبت أوستاش نفسه فيه، على الرغم من موته المبكر وقلّة أعماله، فكان صغيراً جداً للانتماء إلى الموجة الفرنسية الجديدة، وكبيراً ليكون ابناً لها، فصاغ طريقه الخاص بحرية التنسيقات والاقتباسات والموضوعات وفترات ذلك الزمن. مسار أكثر انحداراً من جدران مكاتب «دفاتر السينما»، فبنى سينما على أنقاض هذه الحركة التي قلبت السرد السينمائي الكلاسيكي رأساً على عقب. أفلام أوستاش تؤكد المساحات الوسطية، ما ضاع في مخلّفات جيل سابق، من حلم سيء يسمى الواقع، من جزء من ماض لا يمكن الوصول إليه، من «أشخاص رائعين يتحدثون مثل كتاب أو قاموس» كما يقول ألكسندر. فهو خاسر، مكانه في المجتمع على الهامش، لكنه هامش لا يتوقف عن التمتع بنفس المجتمع الذي يرفضه.
بعد 47 عاماً على صدور الشريط، خضع أخيراً لعملية إعادة ترميم

كل شيء في ألكسندر ليس إلا خيالاً يتحدث من خلال كلمات وإيماءات، لا علاقة لها بالواقع، هو اللحظات التي يضيع فيها شيء ما. في المشهد الطويل مع فيرونيكا، يعلن ألكسندر وهو على وشك البكاء خوفاً من «عدم رؤية أي شيء» من «عدم الشعور بالحياة» لأنه لم يعد هناك أي احتمال للخيال أو الأقنعة أو التمثيل.
أوستاش لم يصور فيلماً عن العلاقات والحب بين شباب في السبعينيات، هو متعاطف مع استسلام شخصياته. هو صانع أفلام واقعي، ليس لأنه ينوي توثيق الواقع الممل، لكنه مهتم بتأكيده وفي تجدّده المستمر. يجب مشاهدة الوقت يمرّ ويخضع لتدفّق الأحداث، يصور الأشياء ويسمح لها بالرحيل. لا يقوم أوستاش بتصوير الأشياء نفسها فقط، بل يصور طريقة النظر إليها. «الأم والعاهرة» أطروحة حول عادات جيل ما بعد 68، المتحرّر من الأيديولوجيا ومداولاتها البطولية، هو عودة إلى الحياة اليومية، إلى فوضى المشاعر. والوقت والمكان هنا ليسا الماضي، لذلك اليوم بعد 47 عاماً على صدور الفيلم، أُعيد ترميمه، لأنّه الذاكرة التي تهيّئ الزمن وتشبك أليافه وتؤمّن انتقاله.