بدأ الأمر تماماً كما حدث في ذلك الوقت، في عام 1986: تدريبات طيارين على حاملة طائرات عسكرية على وقع أغنية Danger Zone لكيني لوغنز. صوت هدير محركات الطائرات العسكرية التي تهبط وتُقلع ممزوجة بموسيقى جورجيو مورودر. والجميع ينظرون إلى بعضهم ويشيرون بإبهامهم إلى الأعلى. نعم، كل شيء على ما يرام. وفي هذه اللحظة، تيقنّا أن كل شيء سيكون رائعاً. بعد ذلك، يظهر النقيب بيت «مافرك» ميتشل (توم كروز)، الذي يعيش في صحراء موهافي في كاليفورنيا. مثل البطل الخارق، يرتدي سترته الجلدية الشهيرة ونظارته الشمسية التي لا تبطل موضتها، ويكشف عن دراجته النارية ويصدر هديراً تحت أشعة الشمس، مصحوباً دوماً بالموسيقى التي نعرفها من «توب غان» لتوني سكوت (1944 – 2012).

36 عاماً كاملة مرت منذ أن جلس كروز الشاب في مقعده للمرة الأولى في طائرة «أف 14» لأداء مناورات خاطفة وإزعاج رؤسائه وتدمير العدو. هو لم يتغيّر. لا يزال يستمتع بحريته ويشقّ الصحراء على درّاجته الكاواساكي، واليوم وهو يقترب من الستين، لا يزال يتجاهل أوامر رؤسائه. متمرّد، يخترق القواعد، رجل بلا حدود، وأسرع رجل في العالم. صنع توني سكوت، «توب غان» في حمى أفلام الحركة في الثمانينيات، ليصبح كلاسيكياً مع الوقت. واليوم يعود الفيلم للمرة الثانية على يد جوزيف كوسينسكي ويغمرنا مرة أخرى في حمام من الأدرينالين والتستوستيرون. والنتيجة، الطيار المقاتل نفسه بزيّ ساحر، وتلامذة تافهون بجديّتهم العاقلة وطفوليّون في سن رشدهم. من المستحيل أن نغلق أعيننا عن «توب غان: مافرك»، هو دعوة لطيفة لننسى كل شيء خارج الصالة، ولمشاهدة سريعة الوتيرة للطائرات العسكرية مع لمحة درامية ورومانسية. «توب غان: مافرك» لا يزال يحتفظ بروح الفيلم الأول بفضل حنين الممثلين والمخرج إلى الماضي.
لقد قبل توم كروز والمخرج جوزيف كوسينسكي وفال كيلمر القيام بأهمّ مهمة مستحيلة في حياتهم المهنية: إعادة التفكير في أيقونة أثرت على جيل كامل من دون الوقوع في محاكاة ساخرة للذات أو أسوأ من ذلك، الشفقة على الذات. لذلك اتخذوا أفضل قراراتهم وجعلوا مافرك، الطيار السريع وغير القابل للتدمير، ضعيفاً، بل مليئاً بالجروح، لكنه لا يزال متهوراً والسرعة لا تزال شريان حياته. ومع ذلك حتى يومنا هذا، هو غير قادر على معالجة فقدان رفيقه السابق «غوز».
بالنسبة لبيت «مافرك» ميتشل، لم يمر الوقت. لا يبدو أنه أبرم ميثاقاً مع الشباب الأبدي فحسب، بل إنه يستمر في اتّباع نفس العادات السيئة: لا يعترف بالسلطة، مقدام، خطير، ويرتدي نفس النظارات والسترة الجلدية ويصرّ على ركوب الدراجة النارية بدون خوذة. بعد ثلاثة عقود من انضمامه إلى أكاديمية «توب غان»، أعاده القدر مرة أخرى عليها، لكن هذه المرة كمدرب لمجموعة من الطيارين الشباب، الذين هم انعكاس لما كان عليه هو وأصدقاؤه من قبل. قبل كل شيء، على مافرك اكتساب احترام الجيل الجديد وتدريبه على التسلّل إلى أرض العدو في مهمة انتحارية. ولكنها ليست هذه المشكلة الوحيدة، لأن أحد أفضل الطيارين الجدد هو برادلي «روستر» برادشو (مايلز تيلر)، ابن «غوز» صديق وشريك مافرك الذي توفى في الفيلم الأول، وما بينه وبين مافرك مزيج من الضغائن والكلام الذي لم ينته. بين مهمته الجديدة والماضي الذي يعود إليه مراراً وتكراراً، يجد مافرك الدعم من صديقة توم «أيسمان» كازانسكي (فال كيلمر)، وحب بيني بنجامين (جينيفر كونولي) الذي ذكرت في الفيلم الأول من دون أن نراها. لا تنتهي الرحلة إلى الماضي هنا، على الرغم من أن «توب غان: مافرك» له وزن محدّد ومزايا كافية للبقاء من دون اللجوء إلى الفيلم الأصلي، بل يتجاوزه في العديد من الجوانب. ولكن الفيلم الجديد لا يريد أن يكون وحيداً، بل إنّ كل شيء فيه يعيدنا إلى القديم، لا يمكننا إلا أن نرى حب كروز وكيلمر وكازانسكي للفيلم الأول. وإن كان بالنسبة لمافرك «إنها ليست الطائرة، إنه الطيار»، ففي حالة «توب غان مافرك»، إنه ليس الفيلم، بل الممثلين والمخرج.
منذ البداية، كانت الإشادة بمخرج الفيلم الأول واضحة، من طريقة التصوير وإيقاع موسيقى الروك بوب والحفاظ على بساطة الحبكة مع دعوة أشباح الماضي، وبالتالي إيجاد الخلاص المحتمل. بلغة الماضي، نرى غطرسة الطيارين ومعاركهم الملحمية، مع التباهي المعتاد نرى تحكّماً أكبر للغرور. بين الموسيقى والبيرة والصداقة الحميمية بين الرجال ووجود النساء في مواقع لم تكن متوقعة، كرموز لعصر جديد واضح، فالمدرسة القديمة لا تموت ونحن نعرفها جيداً. العدو المجهول الهوية في هذا الفيلم ليس سوى ذريعة جيدة للمعارك الجوية الشديدة الإثارة، التي تحتل صالة السينما بأصواتها وانفجاراتها. فلا يمكننا إلا أن نشعر بإعجاب طفولي عندما تلحق الطائرات الحربية بعضها البعض في السماء.


كان واضحاً استخدام روح الفيلم القديم من البداية، ولكن «توب غان: مافرك» يتناسب بشكل جيد مع الحساسية الثقافية الحالية. على سبيل المثال، هناك جهد أكبر على الشخصيات النسائية لكيلا تصطدم في هذا العالم الذكوري. الشيء المهم في الجزء الجديد هو القصة، لأنها متطورة بحيث تكون عودة مافرك منطقية تُضيف طبقة دراماتيكية بعلاقتها مع الماضي من حيث وفاة غوس وظهور فال كيلمر المفاجئ في الفيلم، ومشاركته مشهداً مع كروز على الرغم من أن مرضه لم يسمح له بالاستمرار في مسيرته المهنية والتي كشف عنها في فيلمه الوثائقي الأخير «فال»، فكانت كلمات فال القليلة ونظراته الحزينة جعلت جميع من في الصالة يرتجف. مشهد بمثابة تكريم ذكي لشخصية «أيسمان» ولكيلمر نفسه.
عرف كوسينسكي كيفية المضي قدماً بالفيلم ووصل به إلى السماء بطريقة لم نكن نتوقّعها. قلّل كوسينسكي الدراما والرومانسية وزاد جرعة الكوميديا، وحافظ على الإثارة ووصل إلى نهاية سعيدة بطريقة مسلية وغامرة. «توب غان: مافرك» هو واحدة من تلك الحالات النادرة التي تكون فيها التكملة أفضل من النسخة الأصلية. ويرجع الفضل في هذا إلى الحب الواضح للمخرج وللممثلين ولكل العاملين في الفيلم، مع تجنّب الادّعاءات الكاذبة والقناعة الواضحة بالسينما الترفيهية. وهو ما سمح لهذا الفيلم بقيادة جوزيف كوسينسكي بتحقيق الحلم الذي طال انتظاره. «توب غان: مافرك» هو الفيلم الذي لم نكن نعلم أننا بحاجة إليه. فيلم جماهيري كبير، بحبكة بسيطة ومقنعة يستعيد روح الفيلم الأول ويحدّثه ويحسّنه ويمنحنا أحد أكثر الأفلام المسلية في الآونة الأخيرة.

* Top Gun: Maverick في الصالات