جين كامبيون في أرض الرجال الذين يحرقون كل شيء في طريقهم. كامبيون في «عصر التقدم» الذي رسّخ ملكية جديدة في أرض كانت سابقاً عذراء. كأرانب جائعة، أمسكت بنا كامبيون إلى فخ دموي جهّزته بدهاء. «قوة الكلب» (2021 ـــ طُرح أخيراً على نتفليكس)، يعمل كإحساس مرهق بالانجراف نحو مكان ما. لا نعرف الوجهة ولا ما سيحدث لاحقاً. ينقسم الفيلم إلى حلقات، كل حلقة كأنّها تحمل بصمة مخرج مختلف تماماً، لم يتم إخباره عن القصة الرئيسية ولا النهاية. هذا الفيلم الغربي يلعب لعبة الغميضة، يضعنا في التناقض القاتل المتمثل في إبراز الإيماءات والتفاصيل التي تنتهي في النهاية بخيانة الطبيعة الحقيقية لشخصياتها. كل شيء يحدث أمامنا مشروط بالتأثير الخبيث والمجنون لأولئك الذين يكرهون أي لفتة أنثوية في الرجل. قدمت كامبيون قصة قوية ومراوغة، مليئة بالتقلبات الواضحة، شفافة في شكلها الظاهر ولكن يصعب فهمها، على الأقل حتى المشهد الأخير الذي هو كبداية توازن جديد في حياة الشخصيات وظروفها. مرة أخرى مع مخرجة فيلم «البيانو» (1993)، نحن مع رجل عنيف وامرأة تتكيّف مع بيئة جديدة، وقمع وتطوير عواطف، ولكن هذه المرة في بيئة أميركية في العشرينيات، حتى إنّ هناك البيانو الذي يلعب دوراً مهماً.
فيلم يخاطر بالانتماء إلى سينما «الوسترن» رغم أنّه يفرض نفسه كحكاية عن الهواجس والمشاجرات العائلية والتلميح إلى الدراما القوطية

«قوة الكلب» مقتبس من كتاب بالعنوان نفسه للكاتب الأميركي توماس ساڤاج، عن شقيقين وكيفية تعاملهما مع الضغوط الاجتماعية والنظرة المنمّطة والقاسية إلى الرجولة. نحن في عام 1925، حيث السهول الواسعة والمناطق الجبلية في ولاية مونتانا. إنها مملكة الأخوة بوربانك، أصحاب المزارع الأثرياء. الأخوان فيل (بيندكت كامبرباتش في أجمل وأقوى أدواره. من المذهل مقدار المشاعر التي يمكن أن يعبّر عنها فقط من خلال الظهور. أوسكار أفضل ممثل قاب قوسين منه) وجورج (جيسي بليمونز) مختلفان تماماً. الأول وقح وفظ وبلطجي، ابتكر درعاً وقائياً لحماية نفسه، قوي إلى حدّ الشر، بالكاد يخلع ملابس رعاة البقر ويستحمّ. يحتقر بيئته ويسلّي الناس الذي يعملون في المزرعة بالنكات المهينة، تزدهر إمبراطوريته الصغيرة والاستبدادية والذكورية حتى يجد خصماً جديراً به. من جهته، يرتدي جورج البذلة ويهتم بالشؤون المالية للشركة. يصل الشقيقان وعشرات من رعاة البقر إلى نزل ومطعم تديره روز (كيرستين دانست)، الأرملة ووالدة بيتر (كودي سميث ماكفي) الذي يعرّضه مظهره الهش والأنثوي ليكون هدفاً مثالياً لسخرية فيل وهسهسته. يقرر جورج الزواج بروز، ومنذ تلك اللحظة ستعيش معهم في القصر العائلي. لا يتدخل فيل في حياة النزيلة الجديدة، لكنّ الازدراء وسوء المعاملة يتجليان عند كل مفترق ولقاء، فتجبرها هجمات فيل النفسية وعبء ماضيها الثقيل على اللجوء إلى الكحول. ويضيف وصول طالب الطبّ بيتر عنصراً جديداً من الخلاف إلى مناخ المكان المتخلخل.
«قوة الكلب» فيلم يخاطر بالانتماء إلى سينما «الوسترن»، على الرغم من أنه يفرض نفسه كحكاية عن الهواجس والمشاجرات العائلية والتلميح إلى الدراما القوطية وحتى المغازلة العرضية، إلا أنه مراجعة معقّدة وغريبة للغرب الأميركي. هو بمثابة تفكيك ناجح للغرب الأميركي، يسائل معنى الذكورة، ليجيب بأنّ نفسية الذكر ما هي إلا نبضات لا يمكن السيطرة عليها ورغبات ومشاعر مكبوتة. تقوم كامبيون بمغازلة أجساد الرجال، وتستمد شخصياتها الرجولية قوتها من البيئة، وتخفي حقيقتها بفظاظة وقسوة. تقول كامبيون إن «تيرانوس» (الطاغية) سيصبح إنساناً عندما نفهم أن حبّ السلطة هو تمويه لحدث غير معلن في الماضي يغذّي الحاضر. تبرِّئ كامبيون بطلها فيل، يمكننا أن نشعر بأسفها تجاهه ولكن بعد فوات الأوان، عندما لا يمكن إعادة عقارب الساعة والأحداث إلى الوراء. تعرّفنا كامبيون إلى «الرجل الألفا»، كاشفةً التناقضات الداخلية لشخصيته، فالعاطفة والإحساس بالوقوف أمام رجل مقنَّع يخيف بقدر غموض نهاية فيلمها.


لا خير ولا شرّ في «قوة الكلب»، بل بشر تعذّبهم بيئتهم. تلعب كامبيون بجدلية البراءة والشرّ في فيلم حسي جداً، يرتبط عدم القدرة على التنبؤ به بالخشونة الطوبوغرافية لتلك السهول الواسعة في ولاية مونتانا. في الحبكة المتقطّعة ببطء، تُتيح كامبتون تدريجاً إلقاء نظرة ثاقبة على العالم الداخلي والحقيقي للشخصيات، وتسقط فقط فتاتاً من المعلومات على الدرب. لا تحلّل المثل العليا للذكورية في النصف الأول فقط، بل تشرّحها بلا رحمة في النصف الثاني. العلاقة بين جميع الشخصيات تقوم على علاقات القوة: القوي يضطهد الضعيف، والضعيف من الخارج هو قاس من الداخل. كل شخصية تلعب أوراقها بطريقة ما، وفي لحظة نشعر أنّهم شخص واحد مع الكثير من التناقضات. حكاية خانقة في المساحات المفتوحة التي تسكنها شخصيات ذات أجندات سرية، مع الكثير من الرموز الدينية والجسدية والميثولوجية. في «قوة الكلب» نتذكّر أنّ في ألعاب القوة والانتقام، لا ينجو الأقوى، بل الأكثر ذكاءً.

The Power of the Dog
على نتفليكس