استلقت ثريا (نادين لبكي) مع ابنتيها ريم (جيانا رستم، سيانا رستم) وتالا (ناديا شربل) في الفراش قبل النوم. طلبت تالا من والدتها أن تخبرهما كيف التقت بوالدهما وليد (صالح بكري) ووقعت في غرامه. ولأنّ ريم لم تكن تريد أن تسمع القصة، قالت ثريا إنها ستخبرهما نصف القصة فقط، وهكذا فعلت. كذلك فعلت المخرجة اللبنانية منيه عقل في باكورتها الروائية «كوستا براڤا» (2021 ـــ إخراج منيه عقل، كتابتها بالتعاون مع كلارا روكي). أخبرتنا نصف الحدوتة، بل قل ربعها. منذ بداية الفيلم، نشعر أنّ هناك شيئاً ناقصاً، ربما سنكتشفه مع توالي الأحداث. لكن الفيلم ينتهي بإحساس النقصان نفسه. ما هو مفقود في «كوستا براڤا» هو القصة بحد ذاتها: السيناريو، الحوارات، المشاهد، الأحداث، المكان، الشخصيات... كل شيء مختزل. باختصار، «كوستا براڤا» فيلم غير مكتمل.نعيش مع عائلة بدري طوال الفيلم في بيتها الذي بنته على قمة جبل في قرية ما في لبنان. انتقلت العائلة منذ ثماني سنوات إلى هذا البيت الجبلي بعيداً عن بيروت وتلوثها وحالة الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي تنهشها. تعيش الأسرة نمط حياة بيئياً في بيت ومنطقة مسالمة. بعد فترة، تقرّر الدولة بناء مكبّ للنفايات أسمته «مطمر كوستا براڤا»، في أرض ملاصقة لأرض عائلة بدري، اشترتها من عليا (يمنى مروان) شقيقة وليد المقيمة في كولومبيا. بخلاف ما صرّح به المسؤولون بأنّ المطمر صحي وبيئي ومطابق للمعايير العالمية، نُقلت نفايات المدينة إلى هذه الأرض وبدأت بالتصاعد والنمو حتى وصلت إلى حدود بيت العائلة. في الوقت نفسه، تتصاعد المشاكل والتوترات داخل البيت، بسبب المطمر والتمزّق بين قرار المقاومة أو الرحيل والخلافات الأسرية الخاصة.
تعيش العائلة تحت سقف واحد مع أب متسلط وأم غير مبالية، وزينة (ليليان شكر خوري) الجدة المريضة، بينما عيونهم شاخصة صوب المدينة، صوب وهم الحرية. هم تواقون إليها ولكنهم يخافونها في الوقت نفسه. المستقبل المجهول، التصادمات الأسرية، التنافس الطفولي، القلق الوجودي، الكبت الجنسي، الظلم الاجتماعي... كلها أفكار حاولت منيه عقل حشوها في الفيلم لكنّ الأمر انتهى بها بعدم التعمّق في أي قضية منها. في المجمل، مشاكل شخصيات الفيلم هي نتيجة الهروب من مواجهة حقيقة كل فرد والبوح بها، وهذا نفسه مشكلة الشريط الأساسية. فعقل لا تبوح بشيء، وفيلمها مليء بـ«لماذا؟» و«أين؟».
لا يعرف الفيلم أي شيء عن مشاكل لبنان، حتى إنّه خارج الزمان والمكان


طوال مدة الشريط، نسأل أنفسنا: لماذا تتصرف الشخصيات على هذا النحو؟ لا شيء مفهوماً. ليس لأنّ عقل قررت ــ في خيار فنّي ـــ الذهاب إلى الغموض والرمزية، بل لأنّ السيناريو قضى ذلك، بدون سبب مقنع يقدّمه لنا. نتصارع مع الشخصيات لنحاول فهمها أو مساعدتها لفهم نفسها. رمتنا عقل في المجهول، في منطقة بعيدة لا نعرف عنها ولا عن موقعها الجغرافي شيئاً، ومع شخصيات لا نعرف ذرةً عن خلفيتها وتاريخها. نعرف فقط أن ثريا كانت فنانة ذات شعبية كبيرة وأن العائلة تعيش اليوم في هذا البيت، والسبب هو «حرقوا ديننا» (قالتها ثريا لابنتيها). هناك خوف كبير من بيروت، خصوصاً بالنسبة إلى وليد لا نعرف أساسه، ولا نعرف لماذا تركت ثريا الغناء وانعزلت مع ابنتيها وزوجها. كل شيء في الشريط بدون خلفيات. مشاكل الشخصيات النفسية لا أساس علمياً لها، ولا هي تحاول معالجتها. مثلاً، ريم البنت الصغيرة المصابة بالوسواس القهري، مهووسة بعدّ الارقام، لكننا لا نعرف سبب إصابتها بهذا الاضطراب، ولا كيفية معالجة الأسرة له، بل إنّ الأخيرة تبدو لا مبالية من الأساس. لا نقول هذا طلباً للتفسير، فالسينما لا تحتاج إلى تفسير ولكنها تحتاج إلى الحد الأدنى من الأدلة المُقنعة التي تجعلنا ندرك حقيقة شيء ما. ولا بأس بالرمزية، التي تعدّ من أساسات العمل السينمائي، لكن لا يمكن إدخال الرمزية في كل مشاهد فيلم مبني أصلاً على الواقعية. أعظم مساعد للإخراج والسيناريو هو عقل المشاهد الذي يجدر تحفيزه لسد الثغرات التي يتركها المخرج بدون تفسير، ما يولّد إثارة وترقباً وتساؤلات وبالتالي متعة. منية عقل تركت كل شيء بدون تفسير. لعلّه كان من الأجدى أن نتسلّم كتيباً قبل مشاهدة العمل، يفسر لنا كل ما يجري في مشاهد الفيلم، ويعطي بعض الخلفيات التاريخية عن الشخصيات. حاولت عقل «ترطيب» الأجواء بنكات وفكاهة. نكات سمجة وإيحاءات جنسية لا تضحك. حاولت أن تكون جريئة في معالجة صحوة الابنة الجنسية وكبت الأمّ الجنسي. لكن هذه ليست جرأة، بل طريقة عرجاء للتطرق إلى مواضيع أكبر من الفيلم نفسه، ولا يمكن لفيلم بهذه النوعية أن يعالجه ما دام لم يعرف كيف يعالج مشاكل شخصياته التافهة.
«كوستا براڤا» شديد الادعاء والتصنّع، والسبب أنّ القصة (نصف القصة) مكتوبة بشكل سيء والسيناريو مخلخل. تدعي عقل بأنه يحكي عن مشاكل لبنان البيئية، وكيف أن أزمة النفايات تؤثّر في الجميع، حتى لمن أراد العيش خارج بيروت. ولكن الفيلم لا يتكلم عن هذا في الأصل، بل إنّ النفايات والبيئة مجرد حجّة للمخرجة كي تقدّم قصة عائلة متضعضعة، مشاكلها داخلية، لا خارجية سببها أنّها تعيش في بقعة مسمّاة لبنان: لدينا والد متسلط، وأم غير مبالية، ومشاكل تعانيها الابنتان نتيجة شخصية الأهل، لا بسبب المكان فقط. لكنّ تقديم فيلم لبناني يحكي عن مشاكل أسرية موجودة في جميع أنحاء العالم، من دون إعطاء «الرجل الأبيض» حفنة من المشاكل اللبنانية (من دون حتى التكلم عنها بجدية أو احترام أو حتى بموضوعية)، لا يوصلنا إلى السجادة الحمراء (عرض الشريط في «مهرجان البندقية» ونال جائزة لجنة التحكيم في «مهرجان تورونتو» قبل يومين). الفيلم لا يعرف أي شيء عن مشاكل لبنان، حتى إنّه خارج الزمان والمكان. خارج الزمان، لأنّه يبدأ بمشاهد مرفأ بيروت المسوّى بالأرض، ثم يعرج على أزمة النفايات. لم نعد ندري إن كان همّ اللبنانيين هو النفايات بعد انفجار 4 آب! وهو خارج المكان، لأنه لا يقارب أياً من مشاكل لبنان الأساسية. نقلتنا منيه عقل من بيروت إلى قرية لبنانية لا نعرف أين تقع، ولا لمن تتبع، ولا لأي طائفة تنتمي. المحصّلة أنّنا كلنا لبنانيون نعرف أنّ الفساد والمحاصصة سمة الحكومات المتعاقبة، وأن الطائفية علّة لبنان. لا يمكن بناء مطمر في قرية ما والتحدث عن مشاكله من دون التكلم عن فساد هذه القرية والمسؤولين عنها والحزب الذي ينتمون إليه. سئمنا أفلاماً لبنانية لا تفقه شيئاً عن لبنان ومخرجين ومخرجات يختبئون خلف إصبعهم.
لم ترسم منيه عقل الحدود السينمائية في فيلم تجري كل أحداثه في مكان واحد. لا ندري أين حدود البيت، ولا الأرض المحاذية له. لم نرَ حدود المطمر ولا حتى حدود القرية، فيما شاحنات النفايات تأتي من لا مكان. ولأن الأحداث تجري في مكان واحد، والصراعات تبدأ مع بدء ضيق مساحة البيت والأرض، والنفايات وصلت ليس فقط إلى سياج البيت الخارجي بل إلى داخله، فإنّنا لم نشعر بضيق المكان. لم نشعر بالتهديد الكبير الذي يشكّله المطمر على العائلة. السينما وسيلة مرئية في الأساس. ولنشعر بتهديد ما في مكان ضيق، علينا أن نرى هذا المكان قبل الأزمة وخلالها.


باكورة منيه عقل عن مفهوم الحياة البيئية الريفية وأزمة النفايات، لكنّها وُضعت في سياق غير متصل بالقصة، وغير مثيرة للاهتمام. إن كانوا يعيشون حياة بيئية، كان الأجدى أن نرى ما يأكلون وكيف يصنعون مونتهم، ومن أين يأتون بمواردهم الأساسية والحياتية من كهرباء وماء وغيرهما. يسابق الشريط نفسه بالمشاهد التي تمرّ سريعاً والحوارات الفارغة بدون أي اكتراث بذكاء المشاهد أو طريقة السرد. عمل ركيك مرقّع، حيث المشاهد غير متصلة ببعضها، كأن كل مشهد ينتمي إلى فيلم آخر كلياً. ارتكبت المخرجة ما لا يجدر بأيّ كان فعله في السينما: فكرت كثيراً بينما كان عليها أن تشعر، وتترك الشخصيات تشعر. وإذا كانت لا تريد أن تخبرنا شيئاً عن الخلفيات، كان ينبغي أن تتركنا مع الشخصيات لنعرف عنها من خلال صمتها وإيماءاتها. صالح بكري ونادين لبكي كانا كالمومياء، لا تعابير للوجه ولا حتى إدراك لما يحدث. نادين وصالح ممثلان جيدان بلا أدنى شك، لكنّ الضياع كان واضحاً، فمشاهد الفيلم غير المتصلة، حوّلتهما إلى مجرد قارئين لنصّ ركيك.
لم نعش مع عائلة بدري، لم نشعر معها، لم نحبها، ولم نكرهها، لكنّنا غضبنا بسبب عدم مبالاة المخرجة وعدم امتلاكها أدنى جرأة لتكمل ما بدأته. كل شيء كان متواضعاً أمام حجم المواضيع. هناك فرق كبير بين أن يكون الفيلم نفسه متناقضاً وفارغاً، وبين أن يصوّر تناقضاً وفراغاً. «كوستا براڤا» فيلم وقح وكاذب، ثقيل وسميك ومحيّر لا يقول شيئاً، بل إنّ الجميع يرطنون بمصطلحات «عميقة» للدلالة على ذكاء غير موجود، مثل جملة البنت الصغيرة ريم لشقيقة ابيها: «محل ما بتستغل المناطق الفقيرة لصالح الشركات العالمية الكبيرة». جملة خرجت من فم طفلة لم تبلغ الثامنة بعد، وأهلها لا يعلّمونها أي شيء ولا تذهب إلى المدرسة، وليس لديها أي احتكاك مع العالم الخارجي. كل شخص في الفيلم لديه مشاكله الخاصة، لا يعلم عنها الآخر، ولا يبالي من الأصل، بل إنّ المخرجة نفسها لا تبالي. الأم ربما تحنّ إلى ماضيها، وتكره حاضرها الذي لم تختره. الشابة تتعرف متأخرة إلى جسدها. الوالد خائف من الماضي الغامض ويخاف أي شيء خارج حدود بيته. الطفلة الصغيرة ذات ذكاء وعلم مذهلين لا نعرف من أين أتيا. كل ما في العمل حشو وأفكار وعناوين عريضة لم تدخلنا عقل إلى عمقها وإلى عمق الفيلم غير الموجود أصلاً.
لم نشعر بأي شيء خلال مشاهدة الفيلم. تكرار مفرط ودوران حول حقيقة غير موجودة. شريط أصم وأبكم. مرت الساعة والدقائق الأربعون ببطء شديد، جعلتنا نتمنى لو أنّه يمكننا أن نفعل مثل ريم التي تعدّ عادةً حتى الـ 45 كي تختفي مخاوفها فجأة. تمنينا نحن لو نعدّ حتى الـ 45 ليختفي الفيلم هذه المرّة!