في بيروت، لا تشرق الشمس! تحجبها غيوم لا تفارق السماء، بل لا تفارق البيوت وسكانها. غيوم استحوذت على رأس جنى (منال عيسى)، هي التي عادت فجأة إلى مدينتها بعد سنوات في باريس، رجعت كأنها لم تذهب. منذ المشهد الأول، مع خروج جنى بمفردها من باب مطار بيروت بخطى ثقيلة كأنها تحمل هموم العالم على كتفيها، ثم وصولها إلى بيت عائلتها والنوم على الكنبة مثل جنين في الرحم؛ يمسك المخرج اللبناني إيلي داغر أيدينا ويبدأ بإغراقنا. مشهدان صغيران بمثابة مقدمة مثالية لفيلم تتضح معالمه ورؤيته بروية وهدوء تماماً مثل موج البحر القادم من بعيد.قصة «البحر أمامكم» (عرضه الأول أُقيم أمس ضمن برنامج «أسبوعي المخرجين» في «مهرجان كان» والمرشح لجائزة الكاميرا الذهبية لأفضل فيلم أول) بدأت قبل جلوسنا على مقاعدنا وظهور الضوء على الشاشة، ولم تنتهِ مع خروجنا من الصالة. عودة جنى كانت مفاجأة لوالدتها منى (يارا أبو حيدر) ووالدها وسام (ربيع الزهر). أملت جنى أن تكون عودتها إلى بيت أهلها ملاذاً، لكن من بيت العائلة تبدأ باخرة الفيلم بالإبحار في العاصفة. الضغوط التي تطاردها للعودة إلى حياة أسرية والكشف عن تفاصيل حياتها في الخارج تثقل كاهلها. الركود واللاحلول يشعرانها بالضيق، مصيرها ومصير بيروت غامض، والمشاكل العائمة على أمواج الضباب تظهر مخاوفها وقلقها، ما يدفعها إلى العودة إلى الذات والعثور على شيء يمكن أن يصلح علاقتها مع المدينة ومع ذاتها.
ارتقى إيلي داغر بالسينما، لا عزاء ولا مهرب، هنا قصة ونهاية خالية من الأهوال أو الرعب على الرغم من وجودها طوال الفيلم. كل شيء يمكن أن يحلّ بتنهيدة أو صرخة وخلاص ولكن لا شيء من هذا يحدث. «البحر أمامكم» رحلة بين الخيال والميلانكوليا والرومانسية الكئيبة. في مناخ منوّم نسبح فيه نحن المشاهدين، نشهر أننا متورطون، ندور في دوامة لا تتوقف ولا يمكن إيقافها. لتقديم هذه الحكاية، استخدم داغر أسلوباً تهيمن فيه الصورة (تصوير شادي شعبان) على الحوار. قيّد الحوارات بشدة. نص مختصر، لا كلمات عبئية، لا عبارات غير منطقية والمقصد مباشر. لم يترك شيئاً للمصادفات أو للارتجال. كل شيء مدروس للتقدم بالسرد. تمكن داغر منّا حسياً، مورّطاً إيانا بالكامل في الفيلم بنص جذاب ونهج مرئي وسمعي هائل. في «البحر أمامكم» الطريق هو الأساس. أما النهاية وما قبل البداية، فلا مكان لهما. جوهر الفيلم كمن في الصراعات الحتمية العقيمة التي لا يمكن لأحد علاجها ولا يمكن لنهاية وضع حدّ لها.
الميلانكوليا تأكل الفيلم وتأكل جنى. تعيق تقدمها وتحدّ جسدها وصوتها عن الصراخ. تسجنها في عقلها وتعمي قدرتها على رؤية المخرج إذا وجد! مع ذلك، هي لا تفوّت فرصة للتهرب والهروب. نجد أنفسنا في خضم اكتئاب جنى من دون علم بماضيها أو مسبباته، لكن هذا قلّما يهمّ. الأهم محاولاتها وعلاقتها مع أهلها، مع أم يتآكلها الشعور بالذنب، ووالد يهرب من المواجهة. «عم جرب» هي شرارة الفيلم، عبارة قالتها جنى وهي تحاول عصر الحامض. عبارة تختصر رغبتها ببناء علاقة إنسانية مستحيلة مع البشر المقربين. كوّن إيلي داغر جنى وأدخلنا وأدخلها في صراع دائم مع الكل وحتى مع نفسها. الفيلم شفاف يعطي انطباعاً حقيقياً بنقاء جنى، هذه الشخصية التي اكتمل الشعور بها عبر أداء منال عيسى المثالي.
صوّر شادي شعبان بيروت، وأعطت رنا عيد صوتها لتحقيق انصهار بين عناصر هذه المدينة وسكانها المتعبين


بفيلم متماسك من البداية إلى النهاية، قسّم إيلي شريطه إلى ثلاثة أجزاء غير مرئية ولكن محسوسة. الثلث الأول وصول جنى إلى بيت العائلة وبداية صراعها. الجزء الثاني ظهور آدم (روجي عازار) وإعادة علاقته الرومانسية مع جنى. هنا بدأ الفيلم يهرب من بين يدي إيلي. أبعدنا عن جنى وأعطى لآدم مساحة أكبر، ما شتتنا وعزّز اشتياقنا إلى جنى، وخرج من نغمة الفيلم ليقدّم كلاماً مستهلكاً لا يخدم الفيلم. ولكن بسرعة، أعاد داغر الفيلم إلى مساره وتجنّب الأفخاخ التي كان يمكن الوقوع فيها بسهولة. علاقة جنى وآدم قابلة للتبخر، ثنائية مضطربة، التناقضات مؤرقة، الانزعاج سيد اللقاءات ورفض الآخر يهيمن والرومانسية لا ولن تدوم حتى بعودتها، أو إذا كان أصلا آدم موجوداً في الحقيقة! أما الثلث الأخير فيعود بنا إيلي إلى البيت ويبدأ بإغراق أعيننا وآذاننا وكل حواسنا في الماء حتى النهاية.
يستأثر إيلي داغر بكل الوقت لتقديم المشهد والحركة والصوت (تصميم الصوت رنا عيد) والموسيقى (موسيقى جو داغر)، هذه العناية الدقيقة جعلت الفيلم القائم على اللقاءات والخلافات والمحادثات مثيراً حتى الرمق الأخير. مشكلة جنى تتخطّى الخصوصية، هي مشكلة جيل ممن هم في حالتها. في خضمّ الخلافات العائلية وحفلات الزفاف ولمّ الشمل على طاولة العشاء وبعد سنوات من البعد، يهيمن الضياع على العائدة، حيرة إزاء طريقة تفكير المحيط كاملاً من الأهل والأصدقاء وصولاً إلى المدينة بأكملها... وأين جنى من كل هذا؟
يعطي إيلي داغر شخصياته حرية الحديث والصمت. الضباب واللون الرمادي والشتاء وجدا لتعزيز الشعور الإنساني. كان قادراً على استغلال تأثير الطبيعة على حياة الأفراد والتناغم بين المناظر الطبيعة والبشرية. «البحر أمامكم» ليس صارخاً، على العكس يترك الصمت والألم في عيون أبطاله لتكون أكثر تعبيراً من الكلمات. بانتقائية وأصالة، أعطى إيلي داغر الحيلة لعمل إنساني مدهش، فأضفى نضارة غير متوقعة، وعززها باختيارات ممثلين قدّموا أداء ملفتاً. وقدم في الفيلم نظرة تجريبية متعددة الطبقات للتجربة الإنسانية، من الإحباط والوحشية والحب والكره والنجاح والفشل... هي المشاعر المتناقضة والضائعة.
تصرّ جنى على سلوك درب غامض. تمشي كثيراً، تغضب، تبحث عن تفسيرات، تستسلم، تهرب، تتفاجأ، تركض، تنتظر، تتخبّط في بيئة عدائية. نادراً ما يبتعد داغر عن وجه جنى البارد والحازم. يخلق تتالياً دائرياً وجهنمياً. الأحداث تتتابع. بمشهدية بطيئة تشبه الحلم، تعطي جنى معنى للحياة والمعاناة التي تتخللها. لا شيء واضحاً في الفيلم إلا كمّ المشاعر التي تخرج من الشاشة ونخرج بها. الحيرة والضياع لا بدّ منهما، اندهاش بسحر الصورة، غضب وتعاطف مع الأحداث. لكن شعوراً يهيمن على الكل. خوف يولد من وقع الصور والصوت والإيماءات رغم جماليتها. في الفيلم خوف في تسلسل المشاهد، خوف من المجهول، من الآخر، خوف فطري لا يمكن تفسيره. وفي الفيلم أيضاً بحث عن انتفاء الخوف، عن الإجابات نفسها التي قد لا يكون هناك وجود لها. يريد إيلي داغر استدعاء كلّ اهتمامنا، استدعاء حواسنا الخمس وتحفيز حدسنا. لا جدوى من البحث عن تفسير مقنع للأحداث، لا يهم ولا يريد إيلي منا أن نقع في الخطأ الذي وقع فيه أهل جنى والمجتمع وبيروت كلها. يجدر بنا فقط الاستغراق في المشهدية. «البحر أمامكم» لوحة لامتناهية من الأحاسيس غير الملموسة وصعبة التفسير. فيلم خلّاق أتعب المخرج ولكنه أكثر من ذلك يريد إنهاك عقولنا. نحن رفاق درب جنى، نشاركها الضياع. لا نسبقها ولا تسبقنا، لكننا نفترق حاملين التساؤلات ذاتها، ولا نعرف على وجه اليقين إن كان الفيلم بداية لشيء جديد، لكنه بكل تأكيد نهاية حقبة ماضية.
شخصية رئيسية في الفيلم وجدت طوال الوقت، تحدثت دائماً معنا، رأيناها بهيئتها الحقيقية المشوهة وسمعناها تصرخ. بيروت في الفيلم حزينة، رمادية، ضبابية، مدينة أشباح، نسمع صداها من بعيد تطلب النجاة. لم نرَ بيروت هكذا في أي فيلم لبناني. صور شادي شعبان بيروت، وأعطت رنا عيد صوتها لتحقيق انصهار في عناصر هذه المدينة والتلاقي بين سكانها المتعبين والمدينة التي تريد أن تنفجر بنفخة مجازية. وهنا قيمة الصورة الساحرة والصوت للمشهد والإيحاءات.
إيلي داغر متكبر متعجرف ونرجسي في أفكاره. يعبّد النهايات، ويهلّل للفناء، ضارباً بعرض الحائط الاعتبارات والمسلمات. أغرق بيروت، كشف بنيانها الهش والفارغ لا بل الكاذب. أغرق سكانها وأبطأ الصورة ليرينا ثقل تحركهم في الماء. زيّن بيروت باللون الرمادي الذي يشبهها وقدم الميلانكوليا على شكل تسونامي يبتلع السماء والأرض وينهي العالم.