كان المخرج الإيطالي بيرناردو بيرتولوتشي، مهتماً دائماً بالثورات الفاشلة والحركات التقدمية، التي يتم امتصاص فورتها من قبل الأنظمة مثل فيلم «قبل الثورة» (1964) و«الملتزم» (1970). ترك تحفاً سينمائية عكست جوانب مختلفة من هوسه، مثل «1900» (1976) و«التانغو الأخير في باريس» (1972)، وجعلته الوجه الإيطالي الأكثر شهرة في التغيّرات السينمائية في السبعينيات. في أوائل الثمانينيات، قدّم فيلم دراما كوميديا «مأساة رجل سخيف» (1981). ثم بعد ست سنوات أراد تشكيل صورة كبيرة مهيبة عن التغييرات الدراماتيكية التي حدثت في الصين في القرن العشرين، من الإقطاع إلى الجمهورية إلى الشيوعية. «الإمبراطور الأخير» (1987) يشبه إلى حدّ كبير هويته السينمائية التي قدمها في بداياته وفي الستينيات، وهو أحد تلك الأفلام الفخمة التي فشلت في تجديد شعبيتها أثناء عبورها بين الأجيال، ومُحيت تقريباً من الذاكرة الشعبية أمام الهيبة السينمائية التي قدمها قبل ذلك. لا نزال ننظر إلى بيرتولوتشي من خلال الأعمال التي قدمها قبل «الإمبراطور الأخير»، لكن الحقيقة هي أن فيلمه العاشر هو أكثر الأفلام التي تعكس هوية وبصمة وهوس هذا المخرج العظيم.

«الإمبراطور الأخير» (ثلاث ساعات ونصف ساعة) هو محاولة الإيطاليين لصنع ملحمة تاريخية بأسلوب سينما ديڤيد لين. والنتيجة ثراء سينمائي، ليس فقط مثيراً للإعجاب ومهيباً بصرياً، إنما أيضاً الوحيد بعد «قابض الأرواح» (1962) الذي يلعب فيه بيرتولوتشي بالماضي والحاضر بطريقة مبهرة.
يستند الفيلم إلى كتاب «من إمبراطور إلى مواطن» (1957) السيرة الذاتية لبوئي، آخر إمبراطور للصين. بوئي كان مادة مثالية سمحت لبيرتولوتشي بتجديد دهائه السينمائي في تقديم دراما شخصية حميمية داخل ملحمة تاريخية. يتبع الفيلم الإمبراطور خلال مراحل مختلفة من حياته؛ اعتلاؤه العرش في سنّ الثالثة، الصلاحيات المنزوعة منه خارج أسوار المدينة المحرمة، التظاهرات الطالبية عام 1919، طرده من المدينة المحرمة عام 1924، منشوريا تحت سيطرة اليابان، سجنه وإعادة تثقيفه وتعليمه في السجون الشيوعية، وأخيراً حياته كبستاني. الإمبراطور في عيون بيرتولوتشي يتقلب في عالم يتغير من دون أن يتمكن من العثور على مكانه. يفقد كل ما كان يعتقد أنه ملكه. لديه فقط الذاكرة، وهيبة الوقت الذي يغير كل شيء. «الإمبراطور الأخير» قصة حقيقية لرجل وقع في براثن عالم معقد جداً، وبحث في مشواره عن الخلاص السياسي والتاريخي والروحي. كان بوئي ممزقاً مثل بلده بين ثقل التقاليد ومحاولة احتضان الحداثة.
لا يمكن النظر إلى «الإمبراطور الأخير» على أنه ملحمة تاريخية فقط. بيرتولوتشي استخدم هذا التمويه لتقديم قصة شخصية وذاتية للغاية، فهو خبير في التنكر والخداع السينمائي، كما في أفلامه السابقة التي وضع فيها هواجسه الجنسية داخل تعقيدات القصة والشخصيات («التانغو الأخير في باريس» و«القمر» (1979)). في هذا الفيلم قام بذلك بطريقة أكثر تعقيداً. الطاقة الجنسية والعالم العقيم للإمبراطور كانا سبباً وذريعة لحياة بوئي الضالّة وذريعة لتقلباته الشخصية. تمسك بيرتولوتشي بواقع حياة بوئي، تاركاً تلميحات عما يحدث في الإطار السياسي والاجتماعي. والسبب أن السياسة بالنسبة إلى بيرتولوتشي لا يمكن أن تنفصل عن الفرد وعن علاقاته العاطفية ومعضلاته الأخلاقية.
محاولة الإيطاليين لصنع ملحمة تاريخية بأسلوب سينما ديڤيد لين


في «الإمبراطور الأخير» تتعايش الفخامة مع الحميمية، المساحات الواسعة والمشاهد الكبيرة وروعة الملابس مع التعبيرات والرغبة والحزن والوحدة. مأساة يتقاطع فيها صغر الفرد مع عظمة البلد. مُنح بيرتولوتشي الحرية الكاملة من السلطات الصينية للتصوير في المدينة المحرمة، والتي لم يتم فتحها من قبل لتصوير فيلم غربي. يقال بأن السبب هو أن بيرتولوتشي من مؤيدي الحزب الشيوعي الإيطالي، ما سمح له بالوصول إلى مساحات ضخمة مترابطة من الممرات والساحات والأزقة والحدائق. كما قدموا له الآلاف من «الكومبارس» والأزياء الأصلية لذلك الوقت. لقد كان قادراً على استخدام ممثلين ناطقين باللغة الشرقية، ما أعطى واحداً من أغرب أفلام هوليوود، ليس فقط من أجل الهوية الإيطالية للفيلم، ولكن أيضاً لعلاج شخصية تاريخية مناهضة لأميركا في القرن العشرين.
حصد الفيلم تسع جوائز أوسكار منها أفضل فيلم وأفضل مخرج. على الرغم من أن الزمن طوى هذه التحفة، إلا أنها حديثة في فرادتها وغرابتها وعظمتها. «الإمبراطور الأخير» دراسة شخصية لرجل حاول أن يوفق بين المسؤولية الشخصية والإرث السياسي، والذي لم يتم تصويره على أنه بطل، بل على أنه خائن.

* The Last Emperor على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا