«ما زلت أقاوم» جملة في تغريدة أخيرة كتبها المناضل اليساري وصانع الأفلام الأرجنتيني فيرناندو «بينو» سولاناس (1936 ــــ 2020). منذ بدء نضاله ضد الدكتاتورية، لم يتوقف أبداً عن المقاومة، من خلال السينما والسياسة معاً. هو الذي تعرّض للتهديد مرات عدة، كما لمحاولة خطف، ونَفي خارج البلاد، حتى لمحاولة اغتيال نجا منها رغم استقرار رصاصات عدة في جسده. ما كان يمكن إسكات صوته أبداً. رغم تغلغله في تاريخ بلاده وحضارته وثقافته، إلّا أنه كان قادراً على الوصول إلى الجماهير العالمية، وتحقيق شهرة تتجاوز الحدود الوطنية. لم يتخلَّ سولاناس أبداً عن الآخرين، بعدما شغل مناصب سياسية في بلاده. ترك موقعه النيابي لقبول دعوة الرئيس الأرجنتيني المنتخَب حديثاً ألبرتو فرنانديز، ليصبح ممثل الأرجنتين في اليونسكو في باريس. آخر زيارة رسمية له إلى روما كانت في أوائل تشرين الأول (أكتوبر). يومَها، استقبله البابا فرانسيس. كلاهما من بوينس آيرس، تجاذبا أطراف الحديث بمودّة كبيرة على الرغم من الطابع الرسمي للقاء. لكن بعد أيام قليلة، أصيب هو وزوجته بفيروس كورونا. تغريدته الأخيرة، كتبها من غرفة العناية الفائقة، أخبرنا أنّ حالته حساسة، وأنّ زوجته أيضاً في المستشفى. وودّعنا بوصية صغيرة «لا تتوقفوا عن الاعتناء بأنفسكم».على الرغم من دراسته الأدب والموسيقى والقانون، إلّا أنّ السينما كانت دوماً تغريه. هو من المناضلين الأرجنتينيين، الذين اتّخذوا السينما وسيلةَ مقاومة. «أنا أصنع ثورة، إذاً أنا موجود» التي كتبها هو ورفيقه أوكافيو جينينو في منتصف المانيفستو الذي نشراه في مجلة «القارات الثلاث» عام 1969، كانت بمثابة أيديولوجيا ونظرية جديدة للسينما. حمل المانيفستو عنوان «نحو سينما ثالثة». وعليه، كانت سينماه تستجيب لحاجة وواقع سياسي، حاجة إلى التفكير في البلاد كما كانت شكلاً من أشكال المقاومة. يعدّ البيان أحد أكثر النصوص المعروفة والمذكورة في السينما السياسية والاجتماعية في الستينيات والسبعينيات، وأفضل وثيقة لـ«مجموعة أفلام التحرير» التي توسّعت بشكل كبير في بلدان عدم الانحياز ودول العالم الثالث.
السينما الثالثة هي السينما التي تعترف بالنضال بجميع أشكاله الثقافية والعلمية والفنية، وتعتبره أضخم تجلّيات العصر، وأيضاً أداة لتحرير الإنسان كنقطة انطلاق لتفكيك الثقافة الاستعمارية الخارجية، والداخلية الفاسدة المهيمنة. كان سولاناس بيرونياً. عام 1968، أخرج مع جينينو الوثائقي السياسي الأكثر تأثيراً في تلك الحقبة. فيلم شكّل عماد السينما الثالثة، مؤسِّساً نموذج السينما الثورية. إنّه «ساعة الافران» الذي أدان فيه المخرجان الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، ودعيا إلى كفاح مسلّح ضد قرار تسليم الأراضي الأرجنتينية. أربع ساعات وعشرون دقيقة، مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، ويمكن أن يكون عدة أشياء في آن واحد: أداة للاحتجاج السياسي والاجتماعي اليساري، بياناً، مناظرة سينمائية تربوية، مقالاً سينمائياً عن الجو الثقافي لأميركا اللاتينية بشكل عام والأرجنتين بشكل خاص، وتاريخ بلاد غير رسمي. عرضَ الفيلم أسباب التبعية والتخلّف والوضع الاقتصادي المزري والبؤس الاجتماعي الذي تعيشه شعوب أميركا اللاتينية. تتم الإشارة فيه إلى الاستجابة لأصوات المواطنين التي تدرك المشاكل والوضع في البلاد، ويتكلم عن تاريخ البيرونية ومقاومة العمّال للأنظمة، ويعرّج على عالم مقاتلي أميركا اللاتينية من خلال شهادات وكلمات قُدامى المحاربين أمثال أرنستو تشي غيفارا.
بعد نفي قصير، عاد عام 1973 إلى الأرجنتين، وأجرى بعض التغييرات على الفيلم، وعرضه علناً. انقلاب عسكري جديد عام 1976 منعه من إكمال التغييرات، وأجبره على مغادرة البلاد مرة أخرى إلى فرنسا. هناك، خضعت أعماله لتغييرات جوهرية من دون أن تفقد مهمّتها السياسية. بدأ بإخراج أفلام خيالية مثل «تانغوز: منفى غابريال» (1986)، حيث مزج الحقائق المعاصرة مع الأساطير السياسية والثقافية للأرجنتين. وعندما عاد من المنفى عام 1988، قدّم فيلم «الجنوب» عن سجين سياسي، خرج إلى الحرية بعد خمس سنوات من الاعتقال، ومحاولته تقبّل الحاضر. الفيلم هو قصّة حب لامرأة ومدينة وبلد. في السنوات التي أعقبت عودته إلى الأرجنتين الديمقراطية الجديدة، التي يُفترض أن تكون متسامحة تجاه النقد السياسي والثقافي، أنتج سولاناس مجموعة متنوعة من الأفلام مثل «رحلة» (1992)، ومقالات انتقدت الحكومات الأرجنتينية المتعاقبة، وخاصة حكومات كارلوس منعم. على الرغم من أن منعم كان بيرونياً أيضاً، فقد انتهى به الأمر إلى تدمير الحركة البيرونية، و«بيع» البلاد عبر خصخصة موارد الدولة. النقد والسخرية من الحكومة لم تمرّ من دون عواقب. انتقادات سولاناس قوبلت بالعنف، وحاول مجهولون اغتياله.
شكّل فيلم «ساعة الافران» عماد السينما الثالثة


عام 2001، عاد سولاناس إلى الشارع مع الاحتجاجات التي عمّت البلاد، بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية. هنا، شعر بضرورة استكشاف الأحداث الجارية من أجل فهم اللحظة التاريخية، وكذلك الأحداث التي ستليها. قبل أيّ شيء، أراد أن يضع نصب عينيه تاريخاً طويلاً من الفساد الحكومي من جهة، وتاريخ المقاومة الشعبية من جهة أخرى. بعد ثلاثة عقود من «ساعة الافران»، يكتشف سولاناس الشارع من جديد. استعاد شبابه وأخرج أربعة أفلام وثائقية في غضون خمس سنوات فقط منها «إبادة جماعية اجتماعية» (2004) و«كرامة النبلاء» (2005). في هذه الأعمال، تحدث سولاناس شخصياً أمام الكاميرا عن قصة «نهب» الأرجنتين عبر سياسة الخصخصة وتغلغل الفساد في أركان الدولة، ما أدى إلى كارثة مالية واقتصادية.
عام 2009، تحالف سولاناس مع اليسار. عمل في البرلمان بلا كلل، من أجل حقوق المرأة وغيرها. في موازاة عمله السياسي، صوّر ووثّق القضايا الرئيسية في البيئة والمجتمع باستخدام كاميرته الخاصة. عام 2018، قدم وثائقي «رحلة إلى المدن المدخنة» في «مهرجان برلين السينمائي». شريط عن القرى التي اختفت بسبب زراعة فول الصويا، وأجنحة الولادة التي تعالج الأطفال المشوهين الذين تسمّموا بسبب الكيماويات الزراعية. آخر فيلم أنتجه مع ابنه خوان سولاناس وعُرض في «مهرجان كان» عام 2019 بعنوان «فليكن قانوناً» وثّق نضال النساء في الأرجنتين من أجل إجهاض آمن وحرّ ومجاني.
انطفأ فيرناندو «بينو» سولاناس في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 في باريس. علّقت السفارة الأرجنتينية التي تظاهر أمامها في السبعينيات ضد الديكتاتورية العسكرية صورةً له، تكريماً للفنان والسياسي الملتزم. كان سولاناس دوماً يشير مباشرة وبالأسماء إلى المتّهمين في أفلامه. عانق في أعماله جميع جوانب الواقع الأرجنتيني المعقّد. خشيته الأنظمة الدكتاتورية، وخشي العسكر أفلامه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا