والد مروان هو السبب الأساسي الذي أجبر مروان على الذهاب إلى الجنوب. هناك علاقة ما معه، وهذه العلاقة الواضحة في خلفيات الفيلم، لم تتبلور في السرد
ـــ هذا الشاب (مروان) لديه معضلة، نعاني جميعاً منها بمن فيهم أنا، هي أنه ينتمي إلى هذه المنطقة ولا ينتمي إليها في الوقت نفسه. لا يدرك مروان سببها، لكننا نعرفها كمشاهدين. يريد الخروج من البلد، ولا يعرف إن كان يريد الهجرة أم لا، مثلنا جميعاً. جميعنا مقتنعٌ أنه لا يمكن العيش في هذا البلد، فهو متعِب، ومحبِط ولكننا لا نتركه في الوقت نفسه. أنا مثلاً سافرت، ثم وجدت نفسي قد عدت. أنا مقتنع بأن الرجوع خطأ ولكني عدت. هذه المعضلة دفعت مروان للذهاب إلى الجنوب لهدفين: إما التصالح مع والده أو قتله. ذهب إلى الجنوب لإيجاد والده وهو يحمل غضباً داخله. نشعر أن والده يمثّل الجيل الذي يحمّلنا مسؤولية الحرب واليسار والهزيمة (كل الشخصيات مهزومة)، لكن ما حاولت قوله في الفيلم، أنه فشل حتى في سلوك هذا الطريق الكلاسيكي المتمثّل في مجازية «قتل الأب» أو التصالح مع الأب، لأنّ شيئاً كبيراً قد اعترض طريقه. لم يعد مهماً ما حدث مع الأب، لا يهم إن عثر عليه أم لا. خرج للتصالح مع هذه المنطقة، التي تمثّل والده، والتي يعرف أنه لا ينتمي إليها. كل هذا أنا عشته، وأعرف كيف أعبّر عنه، أو على الأقل حاولت.

لماذا جميع الشخصيات سلبية وعدوانية في الوقت نفسه؟ لماذا نشعر بالعدوّ ولا نراه؟
ــــ ما شاهده مروان في الجنوب هم أشخاص مطحونون من الحرب، شخصيات ذاهبة إلى قدرها من دون أن تتحكّم بالطريق، شخصيات عاجزة. مهووسة بميثولوجيا دينية، اجتاحت الجنوب بعد حرب 2006. دائماً ما أردّد أنّ الفيلم ليس فيلم حرب، هو فيلم حدث خلال الحرب. وبالنسبة إليّ، إسرائيل هي عدوّ، هذا تحصيل حاصل. وانطلقت من كل هذا لأقول شيئاً وليس للمعالجة. لست مهتمّاً بتصوير جنود إسرائيليين. العدو موجود وكلنا نعرفه، أردت أن أتحدث عنا. عمّا يعني النصر، هل نحن مهزومون أم لا؟ هل نحن مطحونون في هذا العالم أم لا؟ هل الحروب أهلكتنا أم لا؟ هل اجتاحتنا الميثولوجيا أم لا؟ أردت أن يكون مروان (الشخصية الأساسية) سلبياً عدوانياً. أردته أن لا يعرف كيفية التعبير. هذه هي اللحظة السينمائية، كيف يمكن أن تظهر اللاشيء. أردت أن ألتقط في الكاميرا الإحساس الخالص.

اشرح لنا أكثر عن هذه اللحظة السينمائية بالنسبة إليك، وأكثر عن استعمال الصوت الذي هو أساسي في الفيلم، والمحتوى السياسي الذي يظهر بين الحين والآخر؟
ــــ بالنسبة إليّ، هناك ثلاث طبقات في الفيلم، أوّلها الصوت والصورة. في الفيلم الصوت في مكان والصورة في مكان آخر. الصوت هو الحرب، والصورة هي نحن. في أي لحظة يتطابقان. وأحياناً يؤثر الصوت على القصة، وأحياناً أخرى يتحوّل الصمت إلى صوت بحدّ ذاته. الطبقة الثانية هي السرد، والطبقة الثالثة هي السياسة. كما قلت إن العدو هو من البديهيات، ولكن الأهم هو كيف نفكك أنفسنا بأنفسنا، أن ننتقد أنفسنا، أن نفكك هذا النقد. بالنسبة إليّ، إن لم تكن فناناً قلقاً في هذه المنظومة فهناك مشكلة. أن تكون سينمائياً، يعني أن تذهب خارج الحدود، ولا تظلّ في المكان الآمن. يجب دفع المشاهد وجعله يفكّر. لم أرد أن أسلب عقل المشاهد، بل أن نفكّر سوياً.
أن تكون سينمائياً، يعني أن تذهب خارج الحدود، ولا تظل في المكان الآمن (أ. غ)


لماذا «جدار الصوت»؟
ــــ عندما خرج مروان إلى الجنوب، ورأى الدمار، شعوره الأول كان اللاشعور. أنت لست منتصراً ولا حزيناً. هذه هي ردة الفعل الأولى. كل هذا الفيلم يلتقط الشعور الأول. لهذا أسميته «جدار الصوت»، عندما تسمع جدار الصوت، تعجز عن التفكير للحظة، تخاف لثانية. هذا ما حاولت سينمائياً أن ألتقطه.

في لحظة معينة، عندما كان الجنود الإسرائيليون في الطابق العلوي، من المنطقي أن ينزلوا إلى الطابق السفلي، ولكنهم لم يفعلوا. ألا ترى أن هذا ضعف في السرد، كبنائه على الحظ والمصادفة؟
ـــ هذا هو الفرق بين الحياة والسينما، الشيء الذي أخذته من القصة الحقيقية، هو هذه اللحظة. ما حدث في تلك اللحظة قد حصل في الحقيقة. والشيء الحقيقي الثاني هو الكلب. عندما دخل الكلب إلى الطابق السفلي ولم يشم رائحة السلاح، لم ينبح. هذا حصل في الحقيقة، وهو ليس مقنعاً في السينما.



بحثاً عن «الأب» وسط النيران
كان مروان (كرم غصين) على يقين بأنه سيقنع والده، الجاثم في بلدة في منطقة غير آمنة، بمغادرة منزله والعودة معه إلى بيروت. رفض الخوف وأظهر الثقة، ولكنه وقع في براثن حرب لا ترحم. ولا يزال يبحث عن شخصية الأب المحاصرة في مكان غير محدد. خلال هدنة معلنة من الحرب (العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006)، يغادر مروان بيروت متّجهاً إلى الجنوب للبحث عن والده الذي يرفض مغادرة القرية. لم يعثر على والده، بل على أصدقائه. الهدنة انتهت. يجد مروان نفسه مع عدد من الأشخاص (الراحل عادل شاهين، بطرس روحانا، سحر منقارة، عصام بو خالد) عالقين في منزل.

مشهد من «جدار الصوت»

«شو في هون غير الموت؟» يصرخ مروان في أصدقاء والده المصرّين على البقاء، هم الذين دافعوا عن الوطن وحاولوا تغييره سابقاً. مهمّة العثور على الأب، الذي لم يظهر في الفيلم، هي المهمة الأخيرة لمروان، ومحاولته السفر معرّضة للعرقلة بسبب هذه المهمة. في لحظة، أراد العودة، وعدم التفكير كثيراً في الماضي. أراد الرجوع للوصول إلى زوجته (فلافيا بشارة) في أسرع وقت والانطلاق في رحلة إلى حياة جديدة. لكن الألم، أمطار التفجيرات، صورة الأب، الحطام، الحرب، العدو (الذي لا نراه ولكن نسمع صوته)، التوتر، الصورة الكفكاوية والسوريالية في الوقت نفسه التي تفقد الفرد هويته ومنطقه بينما الخوف هو الملك، تشبث الجميع في ذلك البيت الصغير.. كل هذا بينما تلتقط كاميرا أحمد غصين نوافذ حقيقية تنفتح على الحياة والمستقبل.
بشجاعة وحدّة، تخلى أحمد غصين عن مكونات فيلم حرب، وركز على الإنسان وعلى الخوف الطبيعي. وللقيام بذلك، حوّل مكان الصراع والحرب من الخارج ووضعه في عقولنا. ثقة غصين كاملة في الوسيط السينمائي. يعود إلى الجذور، إلى الصمت، إلى المجهول، إلى صورة مراوغة، إلى الأصوات التي تؤكد وحدها وجود الرعب والوحش والعدو والخطر. جعل غصين الحرب عطراً، ضجيجاً، أصواتاً، خطى أعداء، أصواتاً مكتومة، وطلقات رشاشات وصوت مروحيات. يستحوذ الصوت على الصورة (تصميم الصوت رنا عيد)، ويعيد سرد السياق على الشاشة الكبيرة بشكل مثالي. حرب لا نرى منها شيئاً، ولكنها تسكننا، في غبارها، وظلامها، وظلالها.
يتصاعد التوتر بطريقة ثابتة، يسجن غصين شخصياته داخل المنزل «الآمن» طوال الفيلم، يكبلنا معهم على كراسينا. قدم غصين فيلمه بطريقة منظمة، أعطى كل مشهد حقه، من خلال العمل على كوريغرافيا الممثلين، على تفاصيل حركاتهم في ما يتعلق بالكاميرا، على النية وراء هذه الحركات، على تفاعلهم مع بيئتهم، ولغة جسدهم. العدو الحقيقي هو الخوف. الخوف من الأصوات، من الانفجارات، من الجنود الإسرائيليين في الطابق العلوي. هذا العدو الذي لا يأخذ مكانه أبداً داخل الشاشة، ومع ذلك وجوده يملأ الفيلم بكامله، بينما يحاصره «الشباب». تحرك غصين بحرية، بعكس مروان والسجناء الآخرين. قدم فيلماً مجرداً لكن نابضاً، ملموساً لكن مجازياً. وبهذا تمكّن من خلق جدلية، عن الإنسان والحرب، الدين والمدنيين، الشباب والعدو، الأخلاق والسلوك السياسي والنصر الذي لا يزال محلّ جدل سياسياً إلى الآن.
حرب مستعرة في الخارج، ومروان لا يزال يبحث عن «الأب»، وكل من معه لم يترك لهم غصين إلا الهروب من خلال السينما، من خلال ومضات من الضوء، وقطرات من المياه، وشمس، وبقرة، وفروع أشجار تحركها الرياح، وزواحف صغيرة تتنفس. كما لو أن غصين يقول لنا بأن الحياة سوف تستمر، وأن الأرض والجذور مهمة، ولكن يجب أن نبحث عن عوالم جديدة أفضل، وإن كان مع الألم.

«جدار الصوت»: بدءاً من 29 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «فوكس سينما» ــ للاستعلام: 01/285582

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا