عاشت الشعوب العربية في السنوات الخمسين الماضية كأنّها في مظهر من نار لا تخبو. حروب بمعارك كثيرة من أهليّة لبنان عام 1975 والغزو الإسرائيلي المتكرر، إلى عشريّة الجزائر السوداء في التسعينيات، ثم حصار العراق واحتلاله في عام 2003، وتالياً الحرب الإمبريالية على سوريا وليبيا بداية العصر الحالي، ناهيك بحروب السودان وتقسيمه، وفوضى الصومال، والعدوان العربي-الأميركي على اليمن، والغزو العبراني المستمر لفلسطين منذ عام 1882. مع أن كميّة التراجيديّات المكثّفة وأكوام الضحايا وبحور الدماء وجبال العذابات البشريّة التي تضمنتها هذه المعارك تكفي لإشغال صنّاع السينما والمؤرخين لمئوية قادمة، فإن ثمّة صمتاً مريباً يكتنفهم تجاهها يكاد يصل حدود التواطؤ الآثم مع القتلة. هذا إن لم يختاروا الانحياز بكليتهم إلى سرديّات الغزاة، مزورين مأجورين، ومخبرين محليين، ومقاولين تقتصر مساهماتهم على اجترار مواد خام فجّة وكليشيهات مستشرقة لإمداد ماكينة البروباغندا التي تديرها الأجهزة الاستخبارية الغربية ضد بلادنا. جريمة صناع السينما والمؤرخين بحق شعوب المنطقة العربية ليست مقتصرة على دور شريك القتلة الذي يتولونه ــ صمتاً أو تآمراً ــ، بل يمتد إلى صناعاتهم ذاتها التي لم تعد ذات صلة بناسهم، ولا ترفع صوت أرواحهم المعذبة، وتهمل إمكانات مواد مذهلة عن عمق أوجاع تجربة وجودهم الإنساني التعس ولو بصفة تجريديّة محيّدة، لمصلحة إنتاجات باهتة مبسترة تعكس سذاجة العيش في فقاعة البورجوازيّات الليبرالية العربية المنقطعة الجذور وتخاطب المهرجانات الغربيّة حصراً، لا جمهورها المحلي. من هذه الزاوية حصراً نقرأ قيمة «المحطّة الجنوبيّة» (2019 ــــ 96 دقيقة ــــ Terminal Sud)، الفيلم السادس للمخرج الفرنسي من أصول جزائريّة رابح عامر زعيمش. فيلم ديستوبيا سياسية يحاول التنصل من الربط السياسي المباشر بأحداث محددة. وبرغم جوانب ضعف فني لا تخفى، وشكوك في غايات التمويل (فرنسي ــ قطري)، كما الجدل الذي تسبب فيه فيلم زعيمش السابق «تاريخ يهوذا» (2015 ــ أعفى فيه اليهود من تهمة التآمر على المسيح)، فإنّه مع ذلك ثَقَب فتحة في جدار مصمت يحيط بالتجربة الإنسانيّة للجزائريين خلال عقد العشريّة السوداء في التسعينيات. جدار عال وسميك تآمر الإسلاميّون والنظام الجزائري وشريكاه الفرنسي والأميركي معاً على تشييده عالياً حول آلام ملايين الضحايا فكأنّها هولوكوست سرّي لم يحن بعد موعد الكشف عنه.
«المحطّة الجنوبيّة» الذي تنافس على جوائز «مهرجان لوكارنو» العام الماضي وحصل على تنويه خاص في فئة الأفلام العالميّة المشاركة وسيُطرح قريباً على منصات الستريمينغ، يجتهد عبر السرد والسينوغرافيا ليأخذ مُشاهده بعيداً عن أيّ ربط مباشر بأحداث «العشريّة السوداء»، ونحو تقبّل الفيلم كعمل يسجّل تجربة إنسانيّة محضة عن الخوف والعزلة وقسوة العيش في ظل الأنظمة السياسية الشمولية. تجربة قابلة للتعميم جغرافياً وزمنياً في حكاية ديستوبيا سياسيّة معاصرة بطلها شخصيّة طبيب محليّ (تذكرنا بشخصيّة الطبيب في رواية «الطاعون» لكامو وإن كان هنا متشائماً)، يعلق في صراع كافكاوي عبثي بين السلطة والمعارضة، حيث لا أحد يعرف مَن يقتل مَن، وتسقط الهويّات جميعها لمصلحة وضوح وحشيّة الصراع الطبقي، فيما قوى ظلاميّة غامضة تدير حرب الجميع على الجميع. لكن الحقيقة أن المشاهد لا يملك أبداً ترف تصديق هذا الإطار المفتعل، وسيبدأ من فوره في قراءة الأحداث في قالبها الجزائري. لعل زعيمش هنا قد خضع لضغوط تمويليّة أو سعى لتوسيع مروحة مشاهدة الفيلم تجارياً لأبعد من الجزائريين في المنفى، لكنّه أضعف فيلمه بمحاولة ساذجة لتعقيم إطار الحكاية لم تفد السرد، وقلّلت من أصالة العمل.
متعة مشاهدة «المحطّة الجنوبيّة» لا تكتمل دون إلمام بشيء من تاريخ الجزائر الحديث، والذي إن كان قريباً وطازج الدماء للجزائريين أنفسهم، فإن تفاصيله تخفى على بقيّة العالم – وأهل المشرق العربيّ - وبالكاد يلمّ بها الباحثون المتخصصون.
تاريخ الجزائر المشغول بالعذابات منذ وطأت أرضها أقدام الفرنسيين في عام 1830 تخللته لحظتان تراجيديّتان مكثّفتان أولاهما حرب التحرير (1954 – 1962) والتي وإن تُوجت بالانتصار، فإنها كلّفت البلاد حوالى مليون ونصف مليون شهيد، ثم «العشريّة السوداء» في التسعينيات التي راح ضحيتها ما يقرب الربع مليون، أغلبهم من المدنيين الذين علقوا في صراع معقّد تشكّلت معالمه في أجواء الأزمة الاقتصادية الخانقة في عقد الثمانينيات بعد غياب الرئيس هواري بومدين المفاجئ في عام 1978. وقتها، تولى الرئيس الجديد – الشاذلي بن جديد – السلطة باسم العسكريين الذين سيطروا على الحكم بعد الاستقلال وشكلوا جمهوريّة الحزب الواحد، وتركزت جهوده على تفكيك توجهات المرحلة البومدينيّة الثوريّة الطابع لبناء اقتصاد تصنيع اشتراكي على نسق سوفياتي، وبناء نظام اقتصادي بديل منها على أسس النيوليبراليّة الغربيّة وفتح باب العلاقات مع واشنطن. لكنّ سياسات الشاذلي المُفقرة للمواطنين توازت مع انخفاض حاد في أسعار النفط في بلد اقتصاد ريعيّ بامتياز. أمر أنتج أزمة اجتماعيّة هائلة، فتضخّمت أعداد العاطلين عن العمل وتآكلت القدرة الشرائيّة للمواطنين وتضاعفت أسعار المواد الأساسية، وأصبح الفصل صريحاً وإجرامياً بين النخبة الحاكمة الفاجرة الثراء والأكثريّة المعدمة، سيّما مع انسحاب الدولة من مسؤوليتها الشكليّة في الدعم الاجتماعي، وسيطرة الأثرياء المتنفّذين والمافيات على مختلف مفاصل اقتصاد البلاد. في هذه الأجواء المتفجرّة، وجدت الأصوليات الإسلاميّة المزدهرة بجهود المخابرات المركزيّة الأميركية وحكومات الأردن ومصر والسعوديّة في الجزائر سوقاً متعطشة لأيديولوجيا تعبّر من خلالها عن يأسها من النظام الذي طالما تغطى بقشور اشتراكيّة ووطنيّة وشعبويّة، ولم تخف طبقيته المفرطة يوماً. انفجرت الاحتجاجات بداية من عام 1985 قبل أن تتخذ مساراً خطراً منذ حادثة «أكتوبر الأسود» في عام 1988 عندما قتل أكثر من 40 شخصاً في قمع القوى الأمنية لاحتجاج كان يقوده داعية إسلاميّ في قصر الشهداء في العاصمة، ليقتل بعدها 500 شخص خلال أسبوع واحد، وتتدحرج أعمال العنف لتشمل معظم الجزائر. وقتها، حاول نظام الشاذلي تدارك الأمور عبر الدعوة لانتخابات برلمانيّة نزيهة. لكن الجولة الأولى كادت تنتهي بفوز ساحق للإسلاميين على حساب مرشحي النّظام، ما استدعى تدخّل كبار ضباط الجيش بعد استمزاج باريس وواشنطن وتأمين تأييد أنظمة تونس ومصر وليبيا لتنفيذ إلغاء فوري لنتائج الانتخابات في كانون الثاني (يناير) 1992، ونقل السلطة إلى رئيس شكلي – محمّد بوضياف – الذي استدعي من المنفى على عجل. دخلت البلاد بعدها في عقد كامل من حرب أهليّة سماها البعض بـ «الحرب القذرة»، وآخرون بـ «العشريّة السوداء» لبشاعة القتل والقتل المتبادل بين الأجهزة الأمنيّة والإسلاميين، إذ تبادل كلّ طرف تكتيكات الطرف الآخر لتنفيذ جرائم نادراً ما كان لها علاقة بالسياسة أو بالانتخابات أو بالمواقف الأيديولوجيّة المزعومة لدى الجانبين. أفاد النظام الجزائري وقتها من دعم وتغطية فرنسيّين، وفرض الأميركيّون على صندوق النقد الدولي منح الجزائر قرضاً عاجلاً بالمليارات لتمويل جهود التسليح والسيطرة، وفُتح قطع النفط والغاز الجزائري للمستثمرين الأجانب. كانت هذه المعركة المحتدمة بين المصالح المتنافسة تجري دوماً على حساب المواطنين الجزائريين العاديين الذين إن نجوا من القتل المجاني أو الخطف أو التعذيب لدى الطرفين، فسيأكلهم اليأس والفقر والخوف. من قلب هذا المناخ الحالك، تأتي حكاية الطبيب في محطّة زعيمش الجنوبيّة، الذي يقاوم دعوات الهجرة وتهديدات القتل ويستمر في أداء واجبه المهني لجميع من يقصده من المرضى بغضّ النظر عن خلفياتهم السياسية وانحيازاتهم للسلطة أو للمعارضة. لكن أزمنة الاستقطاب الحاد لا تتقبّل فكرة الموقف الوسطي وتضع المحايد في سلّة واحدة مع الطرف الآخر النقيض. ولذا يُجرّ الطبيب ــ سيّما بعد مقتل الصحافي شقيق حبيبته ـــ إلى مربّعات لا يريدها، ويدفع في ذلك ثمناً باهظاً.
لوحات بصريّة أخّاذة صُوّرت في جنوب فرنسا


لا يضع زعيمش وجوهاً على القوى التي تدير حرب الجميع على الجميع، فتبقى غامضة بدون وجه معروف، مع تلميحات إلى أولئك الذين يمسكون بزمام السلطة. لكن ذلك لا يخفي حقيقة أن هذه الديستوبيا قد شربت تحديداً من بئر عذابات الجزائر.
في «المحطّة الجنوبيّة»، ينضج زعيمش الهاوي والمبتدئ ويتفرّغ للمرة الأولى منذ عام 2002 للإخراج حصراً دون التمثيل، بينما لعب دور البطولة وبحضور لافت الكوميديان والممثل الفرنسي الجزائري رمزي بيديا الذي قدّم أداء مؤثراً أنقذ الفيلم من الضعف الظاهر في إدارة وقت الأحداث، كما الاستطرادات الكثيرة على حساب خط السرد الأساسي غير الطموح، والاستعارات الثقافية العديمة الفائدة.
التصوير متأثر بتجارب السينما الفرنسيّة، ولا سيّما فيلم كوستا غافراس الشهير Z، في تقديم لوحات بصريّة أخّاذة صُوّرت في جنوب فرنسا، تخفي وراءها خوفاً غرائبياً وترسم إطاراً نقيضاً لأقدار الشخصيات المتجهة نحو الهاوية الفاغرة فاها. هذا التصوير يمنح الفيلم توتراً إضافياً ينقذه إلى حد ما من الملل في تقديم بعض التفاصيل الأخرى مثل مشاهد التعذيب، والنقلات المتسرعّة من المشاهد الرئيسَة بلا داع دراميّ.
تقف ديستوبيا «المحطة الجنوبيّة» في منطقة وسطى ما بين الأفلام التي تؤرخ للحروب، وتلك التي تطرح تجارب سياسيّة تجريديّة، مع خليط من اللغات والإشارات والموسيقى تتقاطع في مكان مُغفَل، وإن يظل محتفظاً بأجواء متوسطيّة. مع ذلك، فإن قيمة «المحطة الجنوبيّة» كإضاءة ولو خافتة على لحظة من تاريخ الجزائر لم تسجّل بعد لا سينمائيّاً ولا تأريخيّاً ــ بكل تقاطعاتها وملفاتها الغامضة ــ تظّل أهم بكثير من محتواه الدرامي التقني المحض، وأي تقييم ممكن له بأدوات السينما. وسيكون الفيلم كجرس يُقرع لإيقاظ أولئك الكسالى والجبناء كلهم، لعل طمعهم وحده في القبض على تراجيديّات كبرى - ودون مخاطبة متطلبات واجبهم المهني – قد يدفعهم لإعادة النّظر في ما تغافلوا عنه إلى الآن من قصص ناسنا التي تُدمي القلوب والعقول.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا