غزة بالنسبة إلى الأخوين طرزان وعرب ناصر ليست مدينة حرب دائمة. يمكن للمرء فيها أن يحب، أن يحلم، أن يتخيل، ويعيش كباقي البشر. يجيد المخرجان الفلسطينيان اللعب على مشاعر المشاهدين، بخاصة عندما ينقلان مشاعر الشخصيات على الشاشة. منذ فيلمهما الأول «ديغراديه» (2015 ـــ عرض ضمن «أسبوع النقاد» في «مهرجان كانّ»)، عرف الأخوان كيفية نقل حياة الفلسطينيين اليومية في غزة (خصوصاً النساء) إلى الشاشة الكبيرة ببساطة وواقعية وفكاهة وعبث ورشة جنون الحبّ. فيلمهما الجديد «غزة مونامور» (غزة يا حبّي) الذي يُعرض ضمن مسابقة «آفاق» في «مهرجان البندقية» يختلف قليلاً عن باكورتهما. شريطهما الثاني الطويل يحمل خصائصهما كمخرجين بالطبع. لا تزال البساطة والواقعية موجودتين، والعبث والجنون مع كل مشهد، والأحلام بصفتها هروباً من الواقع في مدينة مثل غزة. لكن الجديد هو الطعم المرير والوحدة والحزن على الرغم من الفكاهة.
لا يعرف عيسى (سليم ضو) كيف يعلن حبه أو يغوي سهام (هيام عباس). هو الذي يدّعي أنه كان «دونجوان» عصره. اليوم يبلغ الستين. ليس في حياته سوى الأسماك التي يصطادها ويبيعها وبالكاد تغطي نفقاته. يشعر بالكآبة إلى حد ما، مع عدد قليل من الأصدقاء. هو ساذج بعض الشيء، درويش ومتواضع، روحة حرة وعاطفي. سهام، عكسه: أرملة تعيش مع ابنتها الطالبة والمطلقة، خيّاطة في متجر صغير لملابس النساء، تعيش بالقليل، ولكنها راضية بحياتها وعملها الشاق، بينما يكافح عيسى كل يوم للخروج للصيد وما يحمله من مخاطر في غزة. في أحد الأيام، يعلق في شبكته تمثال برونزي أصلي للإله اليوناني أبولو بقضيب بارز ومنتصب. التمثال يدفع عيسى لمغازلة سهام، بطريقة محرجة بعض الشيء. ولكن التمثال يجلب معه أيضاً المشاكل. عليه الآن إخفاء الكنز عن أعين القريبين والشرطة، والتعامل مع سهام والمجتمع و«حماس»، في هذه المدينة التي لا يمكن لأحد التنبؤ بما يمكن أن يحدث فيها بعد ساعة.
عنوان الفيلم رومانسي، وواضح في تحيته لتحفة آلان رينيه «هيروشيما... يا حبي» (1959). مثل هيروشيما، مدينة الحرب، تتحول غزة، المدينة التي لا نسمع فيها إلا عندما تتعرض للقصف، إلى مكان رومانسي للغاية. يقدم الأخوان صورة خاصة جداً عن هذا الكون الصغير. الناس العاديون هم أبطال العمل. علامات الموت والحصار والعنف والحرب حاضرة في الخلفية، في أصوات وألوان الانفجارات، وصوت الراديو والتلفزيون وزي «حماس». على الرغم من أن فكرة الفيلم العريضة هي «أن الحب يمكن أن يتغلب على أي شيء، ويتجاوز المآسي البشرية»، وخاصة في المشهد الأخير الذي يقف وحده متميزاً عن الفيلم كله، إلا أن الشريط يحافظ على توازنه. هناك مكان لكل شيء: الفكاهة والسخافة والعبث واليأس والرتابة. نجح الأخوان في تجنّب الوقوع في العاطفة السهلة أو رثاء الفقر والحرب والموت باعتبارها مهد المشاعر الحقيقية، ما جعل الفيلم يبتعد عن منطقة إثارة الشفقة أو الإفراط في الشاعرية. هو صورة جديدة لغزة اليوم من وجهة نظر الأخوين ناصر... غزة التي تنتفض في وجه الإسرائيليين، وأيضاً ضد التشدّد والقواعد الصارمة التي تفرضها «حماس». الشريط تحية للاختلاف، يدين المجتمع المتشدد الذي ينظر إلى النساء نظرةً رجعيةً (فيلمهما الأول كان يدور حول الفكرة نفسها تقريباً لكنّه قدّمها بطريقة أكثر وضوحاً).
تجنّب الأخوان العاطفة السهلة أو رثاء الفقر والحرب والموت


يحمل الفيلم الكثير من الضحك، ليس من دعابات، بل من لحظات عبثية مثل النساء «العفيفات» اللواتي تجلبهن الأخت لأخيها للزواج، وعري التمثال في مدينة تحرّم العري، ورمزية القضيب المنتصب لعيسى، وأيضاً رمزية بحث السلطات عنه بعد انفصاله عن التمثال. يخلط الأخوان العادي بالعبثي، والحلو بالمر في شريط يبحث عن الحب في اللاشيء، عن الشعر في عدم اليقين، عن الحياة حتى لو لم يتبقَّ منها شيء، عن البساطة الحقيقية للروح البشرية، عن أبسط الرغبات التي هي أكثرها أهميةً. الفيلم ليس تحفة فنية، ولا عملاً سينمائياً ضخماً، لكنّه صادق، نبيل، حنون وشفاف، مليء بالإيماءات وآلاف الأشياء الصغيرة التي تكوّن ما نسمّيه الحياة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا