استناداً إلى ما يمكن وصفه بأحداث تاريخية لا- تاريخيّة، يحتفي فيلم «مستر جونز» ببطولات مزعومة لصحافي ويلزي مغمور يكتب لصحيفة محليّة، في الكشف عن جرائم تجويع ممنهج طالما ادّعت ماكينة البروباغندا الأميركيّة بأن النظام السوفياتي في عهد جوزيف ستالين (1878 – 1953) نفّذها ضد الأوكرانيين وأودت بحياة الملايين. من إخراج البولنديّة اليمينيّة المتطرفة أغنيسكيا هولاند وسيناريو الأوكرانيّة أندريا تشالوبا، يقدّم الممثل البريطاني جيمس نورتون ــ مرتدياً نظارة دائرية محببة ومترنماً كل الوقت بأغنية من التراث الويلزي القديم ـــ واحداً من أهم أدواره، مجسّداً شخصيّة غاريث جونز الذي دخل سجلات الرواية الغربية عن تاريخ الاتحاد السوفياتي بوصفه نموذج الصحافي الشجاع والذي بحكم الواجب المهني المحض، اخترق الستار الحديدي ونقل للعالم «الحقيقة» بشأن المجاعة الفظيعة هناك. لكن هولاند التي وقفت في الدورة الأخيرة من «مهرجان برلين السينمائي» لتلوم الروس المعاصرين على اعتبارهم ستالين بطلاً قومياً، معتبرة ذلك «عبوديّة للعقل والروح وخضوعاً للوهم بشأن واحد من أكبر القتلة في التاريخ»، لم تكلّف نفسها عناء بناء فيلمها ولو على قطعة واحدة من اللاوهم. فنحن نعرف الآن أن «مستر جونز» لم يكن ــ كما قدّمته ــ مجرّد صحافي مغمور يكتب لـ «إيكو» الإقليمية في جنوبي ويلز، بل مثقفاً ذا جذور أوكرانيّة تخرّج من «جامعة كامبريدج» المرموقة وعمل سكرتيراً في مكتب ديفيد لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا. هو، وإن سافر فعلاً إلى الاتحاد السوفياتي زمن ستالين، إلا أنّه لم يبق هناك إلا فترة وجيزة، قبل أن يثير انتباه السلطات هناك ويتم إبعاده، ليحاول العودة لاحقاً من الجانب الآسيوي، قبل أن يلقى حتفه على يد ما يعتقد أنهم قطاع طرق صينيون. وقد اضطر حفيد مستر جونز الحقيقي إلى مخاطبة صحيفة «صانداي تايمز» البريطانيّة (عدد 26 يناير 2020) نافياً ادّعاءات الفيلم وتجنيه على الحقيقة، ومنها تصوير جدّه يتناول وجبة من اللحم البشري أثناء زيارته إلى أوكرانيا، أو يمشي متعثراً بأكوام الجثث هناك، وأصرّ على أن جدّه لم يشاهد أيّ جثث على الإطلاق إبان زيارته الوجيزة إلى مسقط رأسه. نفت مصادر عائلة جونز أيضاً أن يكون التقى الروائي (التروتسكي النزعة وعميل المخابرات البريطانيّة) إريك بلير الشهير بجورج أورويل كما في الفيلم، فيما أهملت المخرجة الوقائع المثبتة بأن مستر جونز بدأ مغامرته السوفياتية من ألمانيا النازية، وعاد إليها ضيفاً عند أدولف هتلر شخصيّاً وجوزيف غوبلز وزير دعايته الشهير. وفق مفكرته اليومية المحفوظة في المكتبة الوطنيّة في ويلز وتتوافر بعض صفحاتها على الإنترنت، سافر في طائرة خاصّة إلى هناك قبل دخوله الاتحاد السوفياتي واجتمع بالزعيم الهتلري وتناول طعام العشاء في فندق فاخر مع الوزير، الذي وصفه بأنّه شخصيّة مرحة لا تكّف عن الضحك. وتحدّد صفحة الموقع المخصص لمستر جونز على الإنترنت (garethjones.org) موعد هذا اللقاء بعشرة أيّام قبل وصوله إلى موسكو. وعندما طردته السلطات السوفياتيّة، عاد إلى برلين في 29 آذار (مارس) 1933 بعد أيّام من إحراق النازيين مبنى البرلمان الألماني الرايشتاغ، حيث اصطحبه مضيفوه إلى مهرجانات حاشدة لحزبهم للتحدث مع الجمهور الألماني عن «الجرائم التي يرتكبها ستالين».
لكن مهما كان من حال «مستر جونز» سواء المتخيّل أو الحقيقي، فإن السؤال يبقى معلقاً حول المجاعة التي نسبت للدولة السوفياتية، واستخدمت لعقود في شيطنة الشيوعيّة وستالين معاً. الواقع المثبت الآن أن صحافياً أميركياً يستخدم اسم توماس وولكر دخل فعلاً إلى الاتحاد السوفياتي لـ 13 يوماً في خريف 1934 وبقي في موسكو لأقلّ من أسبوع، فيما أمضى بقيّة الوقت بالانتقال إلى الحدود مع منطقة منشوريا (تتبع الصين)، حيث غادر من هناك بلا عودة. بعد عشرة أشهر من ذلك، بدأت صحف أميركية بنشر مقالات موقعة باسم وولكر الذي وصف بأنّه «صحافيّ بارز، ورحالة وباحث في الشؤون الروسيّة قضى سنوات متجولاً داخل الاتحاد السوفياتيّ». المقالات تحدثت عن مجاعة ضربت أوكرانيا تسبّبت بها سياسات الانتقال إلى التصنيع السوفياتيّة قضى فيها ما لا يقلّ عن ستة ملايين شخص، وتضمنت صوراً لأطفال جياع وأكوام من الجثث قيل بأن وولكر أخذها بكاميرا هرّبها معه في ظروف «جدّ استثنائية وخطرة».
أثارت تلك المقالات شكوك لويس فيشر وهو صحافي أميركي، كان يكتب من موسكو وقتها. فالوقت الذي قضاه وولكر في الاتحاد السوفياتي لا يكفي عملياً لزيارة كل المناطق التي ادّعى أنه زارها والتقط فيها الصور، واستبعد أن يكون وولكر قد وصل إلى أوكرانيا. كما تساءل عن سر فترة الانتظار لعشرة أشهر قبل الشروع في نشر سبق صحافي بهذه القوّة. لكن الأخطر كان حقيقة الصور التي تبيّن أن بعضها يتعلّق بمجاعة سابقة حدثت عام 1921 في حوض الفولغا، فيما البعض الآخر يعود إلى فترة الحرب العالميّة الأولى في مناطق الإمبراطوريّة النمساويّة-الهنغاريّة، وتضمنت كذلك مشاهد ملتقطة في الصيف والشتاء، وهو أمر لا يُعقل. وأصر فيشر أيضاً على أن الموسم الزراعي في أوكرانيا عام 1933 - والذي ادّعى وولكر أنّه شهد على المجاعة خلاله - كان موسماً جيّداً. وقد تأكدت شكوك فيشر لاحقاً بعدما تبيّن أن وولكر لم يكن سوى مجرم أميركي هارب من العدالة اسمه الحقيقي روبرت غرين كان مداناً بالتزوير والاحتيال، وهو اعترف في التحقيقات بعد القبض عليه بحقيقة أن صور المجاعة في أوكرانيا لم تكن حقيقيّة وأنّه لم يأخذ بنفسه أي صور هناك.
فيلم استثنائي أنتجته المناخات اليمينيّة التي تسيطر على الحدث «والسلطة» في شرقي أوروبا


لكن بالطبع تجاهل صنّاع الحقائق الملفقة هذه الوقائع، وتلقّفوا قصّة المجاعات المزعومة لشن إحدى أبشع حملات الشيطنة في التاريخ ضد شخص ستالين والنظام السوفياتي، وما زالت صور مقالات وولكر تستخدم إلى اليوم في الصحافة وكتب التاريخ الغربية ومواقع الإنترنت للتنديد بجرائم «الديكتاتور» ستالين، لا سيّما في أوكرانيا التي كرّمت حكومتها الفاشيّة المتأمركة المخرجة هولاند بوسام «الأميرة أولغا» الرفيع قلّدها إيّاه الرئيس الأوكراني بنفسه تقديراً لجهودها في تعريف الجمهور بالجرائم السوفياتية.
والحال هذه، «مستر جونز» فيلم استثنائيّ يتطلّب من مشاهده اتّخاذ موقف مبكّر وحاد لا توسّط فيه تجاه «الحقيقة». فأنت إما تعتبره مجرد خرقة بروباغندا موتورة معادية للشيوعيّة (ولروسيّا المعاصرة) أنتجته المناخات اليمينيّة التي تسيطر على الحدث «والسلطة» في دول شرقي أوروبا، أو تتقبله، مشترِكاً برؤية للعالم صنعها أسلاف مجموعة خبراء الإعلان الذين قدّموا لنا منذ وقت قريب سيرة أسلحة دمار شامل يمتلكها العراق ويحتاج لدقائق كي يقصف بها لندن، والدّموع الغزيرة لنيرة الصباح – ابنة السفير الكويتي في واشنطن – كممرضة شجاعة شاهدت بأم عينها الجنود العراقيين وهم ينزعون أجهزة الرعاية عن الأطفال الخدّج في مستشفيات الكويت ويلقون بهم أرضاً.
«مستر جونز» سيكون جزءاً من الذاكرة التاريخيّة لعصرنا دون شك، ليس بشأن جرائم ستالين المزعومة كما أرادت المتطرّفة هولاند، بل مثالاً تام الأبعاد عن حالة إفلاس أخلاقي وفكري مسّت السينما الغربيّة التي رضيت بدور شاهد الزور وموزّع بروباغاندا منحرفة، وأنموذجاً كان أنطونيو غرامشي سيجده كلاسيكياً عن تداخل السياسي والثقافي وصناعة التاريخ في زمان الإمبراطوريّة وهيمنة النخب الفاسدة.