لكن مهما كان من حال «مستر جونز» سواء المتخيّل أو الحقيقي، فإن السؤال يبقى معلقاً حول المجاعة التي نسبت للدولة السوفياتية، واستخدمت لعقود في شيطنة الشيوعيّة وستالين معاً. الواقع المثبت الآن أن صحافياً أميركياً يستخدم اسم توماس وولكر دخل فعلاً إلى الاتحاد السوفياتي لـ 13 يوماً في خريف 1934 وبقي في موسكو لأقلّ من أسبوع، فيما أمضى بقيّة الوقت بالانتقال إلى الحدود مع منطقة منشوريا (تتبع الصين)، حيث غادر من هناك بلا عودة. بعد عشرة أشهر من ذلك، بدأت صحف أميركية بنشر مقالات موقعة باسم وولكر الذي وصف بأنّه «صحافيّ بارز، ورحالة وباحث في الشؤون الروسيّة قضى سنوات متجولاً داخل الاتحاد السوفياتيّ». المقالات تحدثت عن مجاعة ضربت أوكرانيا تسبّبت بها سياسات الانتقال إلى التصنيع السوفياتيّة قضى فيها ما لا يقلّ عن ستة ملايين شخص، وتضمنت صوراً لأطفال جياع وأكوام من الجثث قيل بأن وولكر أخذها بكاميرا هرّبها معه في ظروف «جدّ استثنائية وخطرة».
أثارت تلك المقالات شكوك لويس فيشر وهو صحافي أميركي، كان يكتب من موسكو وقتها. فالوقت الذي قضاه وولكر في الاتحاد السوفياتي لا يكفي عملياً لزيارة كل المناطق التي ادّعى أنه زارها والتقط فيها الصور، واستبعد أن يكون وولكر قد وصل إلى أوكرانيا. كما تساءل عن سر فترة الانتظار لعشرة أشهر قبل الشروع في نشر سبق صحافي بهذه القوّة. لكن الأخطر كان حقيقة الصور التي تبيّن أن بعضها يتعلّق بمجاعة سابقة حدثت عام 1921 في حوض الفولغا، فيما البعض الآخر يعود إلى فترة الحرب العالميّة الأولى في مناطق الإمبراطوريّة النمساويّة-الهنغاريّة، وتضمنت كذلك مشاهد ملتقطة في الصيف والشتاء، وهو أمر لا يُعقل. وأصر فيشر أيضاً على أن الموسم الزراعي في أوكرانيا عام 1933 - والذي ادّعى وولكر أنّه شهد على المجاعة خلاله - كان موسماً جيّداً. وقد تأكدت شكوك فيشر لاحقاً بعدما تبيّن أن وولكر لم يكن سوى مجرم أميركي هارب من العدالة اسمه الحقيقي روبرت غرين كان مداناً بالتزوير والاحتيال، وهو اعترف في التحقيقات بعد القبض عليه بحقيقة أن صور المجاعة في أوكرانيا لم تكن حقيقيّة وأنّه لم يأخذ بنفسه أي صور هناك.
فيلم استثنائي أنتجته المناخات اليمينيّة التي تسيطر على الحدث «والسلطة» في شرقي أوروبا
لكن بالطبع تجاهل صنّاع الحقائق الملفقة هذه الوقائع، وتلقّفوا قصّة المجاعات المزعومة لشن إحدى أبشع حملات الشيطنة في التاريخ ضد شخص ستالين والنظام السوفياتي، وما زالت صور مقالات وولكر تستخدم إلى اليوم في الصحافة وكتب التاريخ الغربية ومواقع الإنترنت للتنديد بجرائم «الديكتاتور» ستالين، لا سيّما في أوكرانيا التي كرّمت حكومتها الفاشيّة المتأمركة المخرجة هولاند بوسام «الأميرة أولغا» الرفيع قلّدها إيّاه الرئيس الأوكراني بنفسه تقديراً لجهودها في تعريف الجمهور بالجرائم السوفياتية.
والحال هذه، «مستر جونز» فيلم استثنائيّ يتطلّب من مشاهده اتّخاذ موقف مبكّر وحاد لا توسّط فيه تجاه «الحقيقة». فأنت إما تعتبره مجرد خرقة بروباغندا موتورة معادية للشيوعيّة (ولروسيّا المعاصرة) أنتجته المناخات اليمينيّة التي تسيطر على الحدث «والسلطة» في دول شرقي أوروبا، أو تتقبله، مشترِكاً برؤية للعالم صنعها أسلاف مجموعة خبراء الإعلان الذين قدّموا لنا منذ وقت قريب سيرة أسلحة دمار شامل يمتلكها العراق ويحتاج لدقائق كي يقصف بها لندن، والدّموع الغزيرة لنيرة الصباح – ابنة السفير الكويتي في واشنطن – كممرضة شجاعة شاهدت بأم عينها الجنود العراقيين وهم ينزعون أجهزة الرعاية عن الأطفال الخدّج في مستشفيات الكويت ويلقون بهم أرضاً.
«مستر جونز» سيكون جزءاً من الذاكرة التاريخيّة لعصرنا دون شك، ليس بشأن جرائم ستالين المزعومة كما أرادت المتطرّفة هولاند، بل مثالاً تام الأبعاد عن حالة إفلاس أخلاقي وفكري مسّت السينما الغربيّة التي رضيت بدور شاهد الزور وموزّع بروباغاندا منحرفة، وأنموذجاً كان أنطونيو غرامشي سيجده كلاسيكياً عن تداخل السياسي والثقافي وصناعة التاريخ في زمان الإمبراطوريّة وهيمنة النخب الفاسدة.