كان لديه كل شيء ليكون ناجحاً، ولكن معظمهم توقع فشله. جلب فيلم «ذهب مع الريح» توقعات عالية، وإنتاجاً طموحاً مليئاً بالنكسات، ورؤية لماضٍ مثير للجدل. حتى بعد 81 عاماً على إنتاجه، يحدّثنا الفيلم عن قوة السينما وسحرها، وعن أمجاد وبؤس ذلك العصر وزمننا. من المستحيل أن نكرهه أو أن نتجاهله. شبابه أبدي. يبدو كأنه صُنع بالأمس من قبل حفنة من المجانين الشغوفين بتاريخ الولايات المتحدة، الذين يرون العبث به وبالوقائع رخصةً سينمائيةً لتقديم معجزة على شاشة بيضاء كبيرة، تعرّينا وتؤكد لنا أننا كلنا في النهاية مدان.الفيلم هو حلم كانت هوليوود تطمح للوصول إليه وتقديمه. مثال يحتذى به، ليس فقط من حيث السينما الملحمية أو المتفجرة أو الميلودرامية؛ بل من حيث الثورة البصرية السمعية، والرسم الدقيق للشخصيات، والصدمة العاطفية التي تسببها مشاهدته، والكاميرا الحية والمليئة بالطاقة ـــــ هذا الحليف المثالي للمشاهد والأداة الديناميكية التي تدهش بجرأتها لأنها ثورية في تحركاتها، في إطاراتها وفي قدرتها على جمع لحظات عصبية وعنيفة. فيلم ملحمي شبابه دائم، هيكله السينمائي نبيل ولا يمكن تجريده وفصل بعضه عن بعض وعن ماضيه وحاضره.
وجدت النساء في سكارليت أوهارا (فيفيان لي) نسوية عفوية لم يسبق لهن رؤيتها، بجمالها الواثق في ثوب مصنوع من قماش والدتها المخملي الأخضر. هذه المرأة الأنانية، العبثية، الطموحة، اللعوبة، القوية، الشجاعة، الحازمة. من أفضل الشخصيات في تاريخ السينما، ذات طابع مقاوم للذل، وكرامة تفيض وتستيقظ حتى لو تعرضت لسوء المعاملة والإذلال. ووجد الرجال في ريت باتلر (كلارك غيبل) سخرية رومانسية، مصحوبة بابتسامة ساخرة، سلوكاً متزناً في جميع الظروف، ولامبالاة تجاه التحيزات الاجتماعية... شخصية أسطورية تتمحور حول الذات، تفرض نفسها وشجاعتها وذكاءها. سكارليت وريت يشبه أحدهما الآخر عند مواجهة المجتمع المنافق.
الفيلم أكبر من مجرد قصة. إنه حياة وحكايات عائلة أوهارا وبعض العائلات الأخرى من ملاك الأراضي في المجتمع الجنوبي شبه الإقطاعي، وعقليتهم وامتلاكهم للعبيد قبل الحرب الأهلية الأميركية (1861 – 1865) وأثناءها وبعدها. حياة رعب ومعاناة، قصص تتداخل فيها أقدار الشخصيات مع تراجع الجنوب القديم. مأساة فخمة أنيقة على خلفية الحرب الأهلية، ينصبّ التركيز فيها على قضايا مثل الحب والحرية والرق والصداقة والخيانة. تبدأ الحكاية بكلمات قليلة تُعرض على سماء حمراء كالدم ترثي الحضارة الجنوبية التي ذهبت مع الريح، وتستمر أربع ساعات من الحرج والعار والخزي والحزن والفرح والحرب والسلم.
لسنوات، حاول كثيرون فك لغز الشباب الدائم لهذه التحفة التي لم تتكرر ولم يفهمها أحد. «ذهب مع الريح» أكبر بكثير من الحياة نفسها، على الرغم من قضاياه الغارقة في خصوصيات جنوب الولايات المتحدة الأميركية وقيمه، كالشرف والفخر والأسرة والأرض والممتلكات، من دون تجنّب قضية العبودية. سيظل العمل في مشاهده وحواراته التي لا تنسى في الوعي واللاوعي السينمائي. هو يحتوي على شيء غير ملموس، يبدو كمعجزة. شيء لا يمكن تعريفه أو حصره، شيء يحدد الفرق بين الفيلم الجيد والسيّئ. «ذهب مع الريح» هو ذاكرة عاطفية، ومَعلم لأجيال مختلفة. مكان نلجأ إليه للتعرف إلى الحقيقي والمزيّف في مرارة الماضي وحلاوته بدلاً من نسيانه أو التظاهر بأنه غير موجود. الأفلام، مثل البشر، مزيج من الخير والشر. في تاريخ السينما، فقدنا الكثير من التحف السينمائية، والتخلص من المزيد ليس فكرة جيدة. ليس دور الفن والسينما أن يكون رسالةً، أو تحويل الأرض إلى جنة أو الارتقاء بالبشرية. السينما هي الحقيقة والكذب في آن واحد. التغيير يبدأ من الجوهر، ومجرد إيماءات أو أفعال إلغائية لن تمحو التاريخ ولن تغيّر شيئاً.
كل سنة، يصنف الفيلم بأنه عنصري، ويتكرر النقد الواقع في دائرة «الصوابية السياسية» التي استحالت حركة استعراضية تنفيسية منشغلة بالتشوّهات الظاهرية أكثر من انشغالها بالمنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكاملة المبنية على الظلم والاضطهاد المزمن. فلتذهب هذه الصوابية السياسية إلى الجحيم، لم تتحرر السينما من قيود الأديان والرقابة والإلغاء لتقع في براثن من يدّعون الصواب. يجب إلغاء الفيلم لأنه عنصري، «مسيء للزنوج». كيف؟ هو يصورهم عبيداً خاضعين وشخصياتهم كاريكاتورية... إذن في زمن العنصرية، يجدر بالمخرج تصويرهم أسياداً، بينما أصبحت الكاريكاتورية إهانةً؟! إنها الصوابية السياسية اللعينة! لقد وصف الفيلم بأنه «متبلّد الشعور». اشرحوا لنا كيف يمكن لفيلم أن يكون متبلّد الشعور؟
طوال السنوات الـ81، ومع كل ذكرى وكل إعادة عرض للفيلم في السينما، تعلو أصوات «رُسل الصوابية». لكنها أصوات لا تطغى ولو قيد أنملة على نجاح الفيلم العظيم الذي عبَرَ التاريخ إلينا. لهؤلاء، لأصحاب «الصوابية السياسية» التي لا تنتهي، نقول كما قال ريت باتلر حين سألته سكارليت: «أنت ذاهب، وأنا ماذا أفعل؟»، أجابها بكل بساطة: «بصراحة عزيزتي، لا أبالي»!