تجربة استثنائية في فيلم استثنائي. فرادة كامنة في صور ثابتة ممتدة على مساحة الفيلم. صورٌ لا تتحرك بل تنساب فوقها الكاميرا على وقع موسيقى كنسية مهيبة. مشاعر عارمة خلال نصف ساعة ولقطات بالأبيض والأسود حُفرت في ذاكرة السينما. هو خيالٌ علمي اختصر حياة البشر.بعد حرب عالمية نووية ثالثة، استحال العالم أنقاضاً. لكن كيف ننقذ البشرية؟ وجد العلماء الحل: السفر عبر الزمن. الحلّ الوحيد هو إرسال شخص إلى الماضي للتنبيه مما سيحصل تالياً، أو إلى المستقبل علّه يتوصّل إلى حلّ لفناء البشرية.
«الرصيف» (1962) فيلم قصير راقٍ، مظهره بسيط ولكن باطنه معقد وعاطفي. فيلم يحفر بعمق في عروق الذاكرة ويمكث هناك. غامض لا يمكن نسيانه.
يخلق الفيلم مناخاً غير مألوف وحسّي. الأجمل هو المزج بين الخيال العلمي والواقع البشري، هذا الواقع بمشاكل البشر العامة خلال الحروب ومشاكلهم الشخصية. ولا مفرّ من قصة الحب الحزينة التي تضيع بين طيّات الزمن والذاكرة.
كريس ماركر يروي قصته متكئاً على الصور الثابتة من دون أيّ حركة محسوسة. الرواية هنا هي العنصر الأهم، نقّحها بموسيقى جليلة وصوت الراوي الدافئ.. الصوت والحبكة يخترقان جمود الصورة، هكذا يعوّض المخرج الفرنسي غياب الحركة.
«الرصيف» يقيّدنا به. تضرب الصور الثابتة المشاعر، يلامس تأثيرها التنويم المغناطيسي، فنشعر بالعجز أمام الشاشة، بالأصفاد التي تكبّلنا للتسمّر والإنصات منذ البداية حتى النهاية. الصور الفوتوغرافية البيضاء والسوداء تثير مناخاً مثيراً للقلق، فيتجاوز التأثير حدود الصورة ومحدودية الحركة. الفيلم أبعد من الحرب وأعمق من تأثيراتها، يأخذنا إلى حدود الوقت ومحيط الذاكرة وأثر اللحظة لنصل إلى أوان انكسار حاجز الزمن.
تتدفق الأسئلة مع تتابع صور الفيلم. يصبح السؤال: هل الحاضر مهم؟ ألا يمكننا أن نستعيض عنه بعودة بالذاكرة إلى الماضي، ليصبح ملاذنا الجميل الذي نستند إليه خلال الحاضر؟ هل الحاضر حقيقي في الأساس؟ هل بات المستقبل وهماً؟ والسؤال الكبير: إلى أي مدى يمكن للسفر عبر الزمن أن يكون جميلاً؟ كم سنُدمن الانتقال بين أبعاد الزمن؟
رغم ثبات الصورة، إلا أنّ «الرصيف» يحرّكنا: مشاعرنا، ذاكرتنا وعقولنا. الحرب، السفر عبر الزمن، الخوف، موت الأحلام وابتسامة امرأة جميلة... الزمن يمكن اختراقه، إذاً لا بأس في النهاية من عودة إلى البداية: «هذه قصة رجل تلبّسته صورةٌ من الطفولة»...

* La jetée على Mubi