«سيبيريا»: رحلة إلى الداخل
برلين | في فيلمه الأخير «توماسو» الذي عرض في «مهرجان كان» السنة الفائتة، حوّل المخرج الأميركي آبل فيرارا حياته إلى خيال. خلال عرض الفيلم، كان يعمل على مشروعه الثاني. واليوم، ينافس فيلمه الجديد «سيبيريا» على الدب الذهبي في «مهرجان برلين» المقام حالياً بدورته السبعين. يختلف فيلمه الجديد عما قبله، لكن يبدو كأنه تابع له، ولكنه أكثر حميمية، كأنه يغزو عقله الباطني بطريقة أعمق. رحلة شخصية واضحة للمخرج الأميركي. قصة رغبة رجل يصارع من أجل التوازن في حياته.
«أريد أن أرى إذا كنا نستطيع حقاً تصوير الأحلام، مخاوفنا، ندمنا، حنيننا»، هذا ما قاله عن فيلمه الجديد، وهو الذي قال سابقاً إنه منذ فيلمه الأول، راح يغرق أكثر فأكثر في الظلام. لذلك، ما قدمه فيرارا في فيلمه الجديد كان شيئاً متوقعاً. وعليه، من أجل التعامل مع أحداث «سيبيريا»، يجدر بنا أن نلقي نظرة على الرجل الذي يقف وراءه. المخرج النيويوركي يصنع الأفلام منذ أواخر السبعينيات، مثل «الإدمان» (1995) و«الملازم السيّئ» (1992) و«القاتل بالمقدح» (1979) وغيرها الكثير، فاكتسب منها سمعة Bad Boy أو «الصبي الأزعر». من ناحية أخرى، بثّ فيرارا في أفلامه كاريزما لا تقاوم، أضاء من خلالها على النواة المظلمة والرديئة للروح البشرية التي تصارع تدخلات نفسية عنيفة ووحشية بجسد عار.

ويليم دافو في «سيبيريا»

ليس سراً أن فيرارا كان مدمناً على المخدرات والكحول لعقود. لذلك، مثيرة هي الطريقة التي يسمح فيها لشخصيته بالتدفق في أفلامه والتذبذب بشكل مفرط في الشخصيات التي يقدمها. مثلاً، في فيلم «لعبة خطرة» (1992)، قدم شخصية أداها هارفي كيتل، وهي صورة خيالية لنفسه مليئة بكره ذاتي واضح. في الفيلم، صوّر فيرارا شخصية كيتل الذي يكون مخرجاً في الفيلم على أنّه حطام مدمن مخدرات، يرى في صناعة الأفلام عملاً سادياً يتّسم بالعنف. من خلاله، كسر الحدود بين الفعل والواقع وتدمير الحياة. هذه الرغبة في الخلاص والتعري من العذاب التي تناقض الآمال، يعيشها فيرارا من خلال أفلامه. إنّها القوة الغامضة للسينما التي ولدت لتحرّر إبداع الفرد من جميع مشاكل الذات والرقابة العقلانية على تصرفاته في المجتمع. إنها الخلاص بالنسبة إلى فيرارا.
بالعودة إلى «سيبيريا»، يقدم فيرارا الرجل كلينت (ويليم دافو في العمل الخامس مع المخرج) الذي يعمد إلى الفرار من ماضيه متوارياً وحيداً إلى كوخ في غابة، لكنه لا يستطيع أبداً الهروب من البشر ومن شياطينه. في الجبال والثلوج في سيبيريا، يذهب مع كلابه في رحلة روحية يلتقي فيها الغرباء الذين لا يتحدثون لغته وشخصيات أخرى يعرفها جيداً: امرأة روسية حامل، والده الراحل، هو نفسه عندما كان صغيراً، نهود نساء، أسماك ناطقة، زوجته السابقة، والدته، ابنه، سحرة، راهب ووحوش خيالية وحقيقية. رأى خلال الرحلة الموت والإعدام والتعذيب، واجه أحلك اللحظات في يقظته وفي أحلامه، ولا يزال يأمل أن يجد النور في نهاية النفق. كل ما سبق موجود في فيلم فيرارا الجديد. شريط ثقيل وسميك، محير، لا يقول شيئاً لكنه يقول كل شيء. يأتي كالحمّى التي تضرب الانسان لبعض الوقت ثم تذهب من دون أثر. في رحلته، يقابل كلينت كثيرين. كل واحد منهم يهمس شيئاً ذا معنى، ويمضي بعدها تاركاً الرجل يبحث عن الأسئلة الوجودية الكبيرة. بعضها يملك أجوبته المباشرة والسهلة، وبعضها الآخر لا يزال يبحث عن معناه. «سيبيريا» رحلة في جميع جوانبه، تبدأ بالجليد وتمر بالصحراء والمروج الخضراء والمنازل الريفية في نيويورك. رحلة ملموسة وغير ملموسة تتمثل في الوعي غير العقلاني للأحلام. إن غموض الماضي لكلينت الذي يبحث عن الخلاص ويتصارع في مسار مواجهة الخطايا (العنف، الخيانة، الناس والتوقعات) هي صورة المخرج نفسها. هذا الماضي لا يتعلق فقط بأشباح التجربة الأسرية لكلينت، بل إنّ أصلها قديم يعود إلى عذاب طفل تسبب في استياء والديه. أخبر فيرارا هذا الغموض بأناقة وبتصوير قاس، يلعب بالضوء والظلال بطريقة واضحة. هذا الوضوح هو عكس الغموض الذي يعيشه كلينت الذي يبحث عن صفحة جديدة في حياته.
بذل المخرج كل ما في وسعه لزعزعة حياة كلينت وإدخالنا في دوامه حياته وأحلامه من خلال القفز من كابوس إلى آخر، ومنطقة إلى أخرى وحلم الى آخر، ومن ثدي إلى آخر، ومن علاقة جنسية مشوّهة وغريبة إلى أخرى تثير في بعض الأوقات وتزعج في أوقات أخرى. «سيبيريا» يقذف فيه المخرج الصور والأصوات بطريقة غير متماسكة، مشوّشة وشاردة. حاول فيرارا أن يدهشنا ويهزّنا، ولكن انتهى به المطاف من دون الأمرين! لقد أرهقنا على مدى تسعين دقيقة، إرهاق كنّا في غنى عنه.

عودة «فيلهلم رايخ: أسرار الكائن الحي»
من خلال الأفلام التي يعرضها، يمثّل منتدى Forum & Forum Expanded في «مهرجان برلين»، الخط الرفيع بين الحياة والسينما والفن بشكل عام، إذ يضيء على العلاقة بين الشاشتين الكبيرة والحياة، وانعكاس الوسيط السينمائي على الخطاب الاجتماعي. ولأنّ المنتدى يهدف الى توسيع نطاق فهم ماهية السينما، وفتح آفاق جديدة لفهم ارتباطها بالعالم بطرق جديدة، يقدم عروضاً سينمائية قديمة وجديدة تفتح النقاش في هذا المجال. أحد هذه العروض كان فيلم المخرج الصربي دوسان ماكافيجيف «فيلهلم رايخ: أسرار الكائن الحي» (1971 ـــ W.R.: Mysteries of the Organism) الذي منع من العرض لمدة 16 عاماً في يوغوسلافيا.

«فيلهلم رايخ: أسرار الكائن الحي»

فيلهلم رايخ (1897 – 1957) المحلل النفسي الالماني المثير للجدل، ألمع تلامذة سيغموند فرويد وأحد أبرز أعضاء الجيل الثاني من المحللين النفسيين بعده. الشيوعي ثم المعادي للشيوعية لاحقاً، الذي ركّز في أعماله على النشوة الجنسية باعتبارها مفتاحاً للسعادة وللحرية، وباعتبارها وسيلة علاج للمرضى. هو العالم الذي لم يُرضِ أحداً، فتمّ إحراق كتبه في المانيا الثلاثينيات ثمّ في الولايات المتحدة الخمسينيات. الرجل الذي هرب من المانيا النازية، وقع لاحقاً ضحية للمكارثية.
يعيد فيلم «فيلهلم رايخ: أسرار الكائن الحي» سرد نظريات رايخ التي تكلّمت عن الجنس، والصحة النفسية والجسدية والسياسية. في جزأين، يبحث الفيلم في نظريات رايخ عن التحرر الجنسي ضمن النظرية اللينينية التقليدية، يبدأ بوثائقي عن حياة عالم النفس والفيلسوف رايخ في سنواته الأخيرة في ولاية ماين في الولايات المتحدة قبل إلقاء القبض عليه وحظر أفكاره، ثم ينتقل الى سرد قصة التحرر الجنسي لامرأة سلافية. فيلم يواجه القمع السياسي والأخلاقي، يوجّه صفعة للأنظمة والمجتمع، ويمثّل دعوة مفتوحة إلى العلاقات الجنسية غير المكبّلة. خليط جميلٌ بين الإغراء الجنسي، والطرافة والسياسة. شريط يخرج عن المألوف، سوريالي إلى حدّ ما، يطرح أسئلة في الجنس والسياسة بين النشوة الجنسية ويوغوسلافيا الشيوعية. ثم يوغوسلافيا بين أميركا والاتحاد السوفياتي، الديمقراطية الاجتماعية بين الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية ثم البرجوازية بين الرأسمالية والبروليتارية.
رغم صعوبة الأمر، يضعنا الفيلم قرب رايخ وداخله، فهو ليس بالرجل «العادي»، بل هو الذي حمل وزر نظريات تجاوزت حدود التفكير والإدراك، وعلى هذا المستوى يأتي الفيلم. يمتد من حدث سياسي مليء بالمنعطفات ليصل إلى الذروة، مع علاقات جنسية وإجرام. يضعنا في خانة الحيرة، نعجز عن إدراجه تحت أي خانة. لا يسعنا التحدث عن هذا الشريط بخفة وسهولة، لأنه خليط هجين ولكن تام التجانس، بين الواقع والخيال، بين السياسة والجنس. يحاول المخرج الصربي إزالة الغطاء عن الطبيعة الجنسية للبشر، علّه يصل إلى غايته العليا، فيمحو معها الحساسية الجنسية للمشاهد.