قليلة هي الأفلام التي تقرّ بأهميتها وتعترف بعظمتها قبل موعد عرضها على الشاشة. وفيلم «الإيرلندي» ضمن هذه الفئة. إنه العمل السينمائي الأخير للمخرج الإيطالي الأميركي مارتن سكورسيزي الذي سيبصر النور بعد 48 ساعة على «نتفليكس» (سنتناوله بالنقد لاحقاً). كما هو واضح، فهو يندرج ضمن هذا النوع. فما هي أهمية أفلام المافيا والجريمة المنظمة في التاريخ السينمائي؟ وكيف تعامل سكورسيزي معها؟ ما هو دوره في تقديم وإخراج هذا النوع من الأعمال؟ 
التاريخ السينمائي
جلبت لنا هوليوود أنواعاً كثيرة من الأفلام منها نوعان يعدّان من الأهم في التاريخ السينمائي. طريقتان لصنع فيلم يمكن أن تتطور فيهما حرب الخير ضد الشر بالكامل. إنه مشهد عالم معقد ووهمي تقريباً، لكنه قائم على واقع ماض أو حاضر. في هذا العالم، يمكن أن تنشأ معارك ومواقف ملتحمة من كلّ مكان: من الأبطال، من الأشرار وأتباعهم، أو حتى من أبرياء وقعوا في تبادل لإطلاق النار. لا شيء مخطّطاً له، ومعركة الخيّر والشر لا نهاية لها. النوع الأول هو أفلام «الغرب الأميركي» (ويسترن): يتجلّى هذا النوع في أفلام مخرجين أمثال جون فورد، سام بيكنباه، سيرجيو ليون، وممثلين أمثال جون واين، وكلينت إسيتوود وغاري كوبر. لسوء الحظ، لم يعد هذا النوع موجوداً بقوة، فقد تمّ تدميره من خلال التكرار اللانهائي الممل ولأسباب عديدة أخرى ساعدت في اختفائه تدريجاً. النوع الثاني هو أفلام المافيا والجريمة المنظمة. كان موضوع الجريمة المنظمة قد نوقش بالفعل في السينما قبل الحرب العالمية الأولى. يُعرف نوع الفيلم الذي يتمثل موضوعه الرئيس بالجريمة المنظّمة باسم «سينما العصابات»، على عكس أنواع أخرى يكون موضوعها الجريمة فقط. في سينما العصابات، تسود وجهة نظر المجرم، ما يجعل العديد من الأفلام غامضاً. وفي بعض الأحيان، اتُّهمت أعمال هذا النوع بتمجيد الجريمة والعصابة والعنف، لذلك واجهت مشاكل متكرّرة مع الرقابة.
«بوكسكار بيرثا» خليط من الترفيه والعصابات وبعض التلميحات السياسية اليسارية

لعل أفضل فيلم عصابات والجريمة في عصر السينما الصامتة هو «اندروولد» (1927) لجوزيف فون ستيرنبرغ. العصر الذهبي لسينما العصابات، مع أكثر من 200 فيلم شهدته الفترة الممتدة من 1929 حتى 1934 (تاريخ وصول قانون هايز). وهناك ثلاثة أعمال تعتبر الأبرز في تلك المرحلة: «ليتل سيزار» (1931) لميرفي ليروي مع إدوارد ج. روبنسون في دور سيزار مستوحى من رجل العصابات الحقيقي آل-كابوني، رجل عصابات إيطالي في شيكاغو. «بابلك أنيمي» (1931) لويليام ويلمان مع جيمس كاني في دور توم باورز، رجل عصابات إيرلندي. و«سكارفيس» (1932) للمخرج هاورد هوكس (لعل «سكارفيس» الأشهر هو الذي أنتج عام 1983 من إخراج براين دي بالما وبطولة آل باتشينو).
وافق المنتجون عن طيب خاطر على قانون هايز (قانون الرقابة على الأفلام)، فأدى ضغط القانون إلى انخفاض حرارة أفلام العصابات عام 1934 مع انتهاء قانون منع الكحول عام 1933، فأصبح رجل العصابات المهرّب للمشروبات الكحولية من الماضي.
بعد مرور سنوات عدة، عادت شركات الإنتاج الأميركية إلى صناعة أفلام رجال العصابات. أُنتج فيلمان مؤثران. «ملائكة بوجوه قذرة» (1938) و«العشرينات الصاخبة» (1939). مع بداية الحرب العالمية الثانية، بدأ تحوّل جذري في نموذج هذه الأفلام، أظهرت أفلام العصابات الجديدة شخصياتها كديناصورات تعيش في عالم وهمي وضائع، بعد سنوات في الظل، تضطر للتكيف مع عالم جديد ومتغير. ركزت أفلام هذه الحقبة على القضية من منظور أقل إثارة وعنفاً وأكثر رومانسية. كانت الشخصيات تعيش صداماً بين الماضي القريب والأزمنة الجديدة. لم تتسبب الحرب العالمية الثانية بدفن هذه الرؤية الثانية من أفلام العصابات، بل صنعت سيناريو مثالياً لتطوير نوع جديد. «فيلم نوار» Film Noir الذي حاول أن يُظهر بشكل أكثر وضوحاً ذلك الوجه الآخر من الحلم الأميركي. «سانست بولفارد» (1950) لبيلي وايلدر، «ريفيفي» (1955) لجول داسين، «تشاينتاون» (1974) لرومان بولانسكي.
«كازينو» مأساة شكسبيرية، أوبرا موسيقية ومرئية لأبراج وكازينوهات وأطنان من المال والذهب والماس

استمر مرور السنين في جلب أعمال عظيمة لهذا النوع، وأصبحت شخصيات العصابات تتصرف اعتماداً على جنسياتها الأصلية بطريقة أو بأخرى (الإيرلندية، البريطانية، الكوبية، البورتوريكية وبالطبع الصينية). كان الإيطاليون من أوائل الذين صوروا هذا النوع من السينما، تحديداً المهاجرين الإيطاليين الذين ساروا بحثاً عن ثروة إلى الولايات المتحدة في بداية القرن الماضي، بمفهوم رائع للعائلة والولاء، والعمل بلا كلل وأيضاً بقتل بلا هوادة (فيلم «العراب» بأجزائه الثلاثة لفرانسيس فورد كوبولا).

مرجعية عالمية
مخرجون كثر أرادوا ترك بصمتهم على بعض أنواع الأفلام، وكثيرون لا يصلون إلى هذا المجد، فيما يصبح آخرون من الشخصيات البارزة في السينما وفي نوع معين. هذا ما حدث لمارتن سكورسيزي (1942)، الذي أصبح بفضل أفلامه من نوع العصابات مرجعيةً عالميةً. هنا بعض أهم أعماله في هذا المجال:

«بوكسكار بيرثا» (1972):
بدأ سكورسيزي بالجريمة والعصابات مع ثاني فيلم طويل له. «بوكسكار بيرثا» هو الفيلم الذي بدأ يحدّد فيه نمطه. خليط من الترفيه والعصابات وبعض التلميحات السياسية اليسارية. يقدم الشريط قصة بيرثا تومبسون وفقاً لكتاب «أخوات الطريق» للأناركي بن ريتمان. 30 عاماً كان عمر سكورسيزي عند إنتاج الفيلم، ظهر كمخرج طموح تطرّق للمحرمات والفوضى والشيوعية، خلال الركود الاقتصادي في عشرينات الولايات المتحدة الأميركية. قصة عن العوز واليأس، والكساد، واستغلال العمال، ما يسبّب مناخاً اجتماعياً من العنف على وشك الانفجار.

«شوارع لئيمة» (1973):
كان سكورسيزي في بداياته يواجه صعوبة جراء مسيرته المهنية المتعسّرة وحاجته لصناعة سينما شخصية تتعارض مع تعقيدات الصناعة السينمائية في ذلك الوقت. لكن الوقت حان مع فيلمه الثالث الطويل لإطلاق سينما خاصة به. كان يمكن أن تكون الأخيرة ولكن أمله كان كبيراً بتقديم نفسه بشخصية سينمائية خاصة.
تشارلي كشخصية في «شوارع لئيمة» عكس أفكار سكورسيزي الذي كاد أن يصبح كاهناً، كما كان فتى إحدى العصابات في شارع نشأته


عاش سكورسيزي وروبرت دي نيرو طفولتهما على بعد أربعة شوارع عن بعضهما، ولم يعرف أحدهما الآخر. عندما تعارفا من خلال المخرج براين دي بالما بعد سنوات عديدة، كانا على يقين أنهما التقيا مرات عدة في الشارع. بينما كان دي نيرو مع شباب «شارع بروم»، كان سكورسيزي في «شارع برنيس»، ولم يكن بالإمكان أن يكونا صديقين قبل هذا الاجتماع. كان مقدراً أن ينتهي الفنانان الآتيان من ماض مواز وجذور متماثلة، للعمل معاً. تلك كانت بداية الصداقة التي ما زالت قائمة، والعلاقة المهنية التي امتدت على تسعة أفلام (مع «الإيرلندي» الجديد)، بعضها من أفضل أعمال دي نيرو. في «شوارع لئيمة»، عاد سكورسيزي للعمل مع ممثله الرئيس لفيلمه الأول هارفي كيتل. ستكون علاقة جوني بوي (دي نيرو) وتشارلي (كيتل) في الشريط محور قصة الشخصيتين المبتدئتين في المافيا. شابان يرغبان في السلطة والعنف، لكن الشعور بالذنب لا يفارقهما. ضغط معتقداتهما المسيحية ينتهي بمفارقات وصراع نفسي، لأنهما لا يريدان الانخراط أكثر في المافيا ولا يمكن أن يتركاها. يعتبر «شوارع لئيمة» واحداً من أكثر أفلام سكورسيزي إخلاصاً لهاجسه الكاثوليكي (الخطيئة والفداء واللحم والدم). عالم المهاجرين الإيطاليين في أميركا، تتقاطع فيه الجريمة والشرعية بخيوط دقيقة. يعيش المرء في الحاضر لكنّه لا يزال يؤمن بقيم الماضي. المهاجرون الذين ما عادوا يتذكرون لغة وطنهم الأصلي، لكنهم يعرفون قوانين المافيا. لكلّ هذه الأسباب، جاء «شوارع لئيمة» ذا عمق نفسي وعاطفي كبير.

روبرت دي نيرو في «الإيرلندي»

تشارلي في الفيلم، عكس أفكار سكورسيزي الشخصية الذي كاد أن يصبح كاهناً، كما كان فتى إحدى العصابات في شارع نشأته. تشارلي في الفيلم يتعرض للتعذيب الداخلي، بسبب صداقته المضطربة مع جوني بوي ومشاعره المختلطة لتريزا (آمي روبنشون)، وبحثه عن مخرج من متاهته الداخلية التي غالباً ما تكون كابوساً صارخاً... قدم سكورسيزي هنا ذكرياته وشخصيته المعذبة، وأيضاً أول أعماله المهمة، واضعاً عناوين عريضة لموضوعاته المستقبلية.

«أصدقاء طيبون» (1990):
إنّها تحفة سكورسيزي وأحد أهم أفلام المافيا. يعرف سكورسيزي مزاج شخصياته الحقيقية المقدمة في الفيلم، فقد أمضى شبابه في أحياء مملوءة بها. ليس هناك لحظات من العنف الصريح ولا القيل والقال الفارغ. سكورسيزي يأخذ عصاباته من شوارعها ومكاتبها وبيوت الدعارة ويضعها في منازلها وحفلاتها العائلية. هكذا، يبدو أفرادها رجالاً عاديين، ما يخلق مودّة بيننا وبينهم. بالإضافة إلى التصوير والقصة الاستثنائيين، يحتوي الفيلم على موسيقى تصويرية تمنح النغمة الدقيقة لمناخ التخريب والمخاطرة المستمرة. توني بينيت، أريثا فرانكلن، «رولينغ ستون» وغيرهم من الكبار اندمجت موسيقاهم لتقدم إحدى أهم موسيقى تصويرية لفيلم في تاريخ السينما. بدا كأن الأغاني مصممة خصيصاً للفيلم، تذوب في عالم جيمي كونواي (روبرت دي نيرو) وتومي ديفيتو (جو بيشي) وهنري هيل (راي ليوتا) الإجرامي. يروي الفيلم العنف، ولكنه ليس بعنيف، ببساطة يستخدم لرواية قصة عن الأولاد الأذكياء الذين ينتمون إلى مكان لا يريد أحد الانتماء إليه، لكن الجميع مهتمّون به. إيقاع «أصدقاء طيبون» لا يمكن إيقافه.
«أصدقاء طيبون» تحفة سكورسيزي وأحد أهم أفلام المافيا

يتركنا سكورسيزي في خضم عالم المافيا ضمن عمل عنيف ومكثّف، يتم فيه استخدام الشخصية الأولى التي تروي قصتها بشكل ممتاز مع التوليف للحفاظ على سرعة الفيلم بينما نواجه حياة حقيقية، قصة صعود وهبوط هنري هيل. ليس لدى سكورسيزي أي مشكلة في دخول الجانب المظلم من شخصياته. زعماء عصابة يحتقرون أساليب الحياة العادية. كل شيء في الفيلم يمثل دليلاً على ما يفكرون. من خلالهم يصبح ازدهار هؤلاء العصابات كاسحاً لكنه مؤقت. يشرك الفيلم المشاهد، يغزو الجمهور ويلمس شيئاً مخفياً في أعماقه. مارتن سكورسيزي يعرف جيداً ما يريد إثارته في جمهوره.

«كازينو» (1995):
ملحمة تاريخية اجتماعية، انعكاس لأميركا الأمس واليوم. إذا كان «أصدقاء طيبون» هو قصة صعود وهبوط رجال العصابات في الأحياء، فإن «كازينو» هو مأساة شكسبيرية، أوبرا موسيقية ومرئية لأبراج وكازينوهات وأطنان من المال والذهب والماس. «كازينو» هو عندما تخرج عصابات الشوارع من بيئتها وتأخذ زمام مدينة الأحلام: لاس فيغاس. الفيلم عن المافيا التي تتحول إلى شركات متعددة الجنسيات. يسجنك سكورسيزي بالفيلم وبتفاصيله الصغيرة التي تروي كل شيء وتأخذك إلى النهاية الدرامية. ثلاث ساعات يتم الحفاظ فيها على إيقاع عالي المستوى. الفيلم عبارة عن سلسلة متواصلة من الصور القوية والمشاهد السريعة بحركة كاميرا عنيفة. ودائماً، دي نيرو الرائع بتقديم شخصية الرجل ذي النفوذ وأيضاً جون بيشي الذي وُلد ببساطة ليلعب هكذا أدوار.


أميركا بين الأمس واليوم
«عصابات نيويورك» (2002) و«المغادرون» (2006)، فيلمان قدم فيهما سكورسيزي المافيا بطريقة مغايرة عن أفلامه السابقة. الأول تاريخي يعيدنا إلى أميركا عام 1846. والثاني معاصر عن علاقة المافيا والشرطة الفاسدة والجواسيس المتبادلة. في جميع أفلام سكورسيزي تقريباً، إن لم تكن قصة الجريمة والمافيا مقدمة بطريقة مباشرة، فإنّها موجودة بشكل غير مباشر.

«الإيرلندي»: بداً من الأربعاء على نتفليكس