لكن هذه الأعمال فُقدت في لبنان بعد الحرب. لم تستمر السينما الواقعية مع الجيل الجديد، إنّما تحوّلت إلى سينما «برجوازية». فكما كان الواقع مزيفاً يدّعي بأننا نعيش السلم الأهلي ومن دون مصالحة والعيش في حالة إنكار لما حصل على أمل نسيانه، كانت السينما كذلك، إذ لم تتمكّن من إنتاج أفلام أصيلة تحاكي الأزمات الفعلية، بل قدّمت رؤية سطحية ومجتزأة، من وجهة نظر واحدة أو من دون الغوص بعمق في مشاكل المجتمع اللبناني. كل ما أُنتج يبقى في خانة «المحاولات» من بعض المخرجين أو المخرجات. مثلاً، هناك فيلم «محبس» (2016) للمخرجة صوفي بطرس الذي حاول تقديم علاقة السوري اللبناني بطريقة سخيفة ومبتذلة، وأفلام نادين لبكي التي تتحدث عن المشاكل الاجتماعية كأنها فاكهة لبنانية صالحة للتصدير، كفيلم «...وهلأ لوين» الذي يتحدّث عن الطائفية، لكنه يظهرها بسطحية مع نهاية مشاهد الحشيشة والتعايش السوريالي. أما زياد دويري بفيلمه «قضية رقم 23» الذي اقترب قليلاً من الضغط على الجرح وفتح ملف الاقتتال المسيحي الفلسطيني، وأعاد النقاش حول ماضٍ يحاول السياسيون في البلاد تغييبه، فقد اقتصر فقط على نقاشات بعد المشاهدة. أما الأفلام المتبقية، فلا تنفع سوى لمشاهدة تلفزيونية، أو لرحلة عائلية إلى السينما في نهاية الأسبوع عند الحاجة إلى الترفيه بعد الروتين الأسبوعي، أو عند انتهاء العمل والشعور بضجر البرامج التلفزيونية.
وكما أن السينمائيين اللبنانيين لم يتمكنوا من إنتاج أعمال من صلب الواقع خلال فترة ما بعد الحرب الأهلية، سيكون من المستغرب جداً أن نجد كاميرات لمخرجين يتجوّلون في الساحات لديهم أهداف أبعد من المشاركة في التجييش أو دفع الشعب للنزول إلى الساحات. إذا... ما هو هذا العمل الذي سيوثّق الثورة من دون أن يسبقه أيّ إنتاج يوثّق أسباب الثورة؟
تصوير ثورة شعبية ونقلها إلى الشاشة الكبيرة عملية دقيقة تتطلب تَفكّراً وتروياً
كلّ عمل لا يقدّم سوى مشاهد من الاعتصامات ومقابلات مع الثوار، لا يصح أن نطلق عليه عملاً سينمائياً لأن هدفه لا يتعدى اللحاق بـ «موضة» استغلال أوجاع شعب وثورته من أجل تحقيق غاية شخصية تكتمل مع تسلّم مجسمات الجوائز. وبالطبع سيكون المخرج مطمئناً إلى أنّه حقق النجاح عبر استغلال الثورة للحصول على الشهرة، لكن هذه الشهرة مشكوك في صحتها، لأن هذا النوع من الأفلام التي نكاد نجزم بأنها ستنتج قريباً، لن تستحق إلّا أن تعرض على «إنستغرام تي في». ومن الضروري فهم أن المخرجين اللبنانيين الذين لم يمسكوا بشعلة المخرجين الواقعيين ولم يقدموا أفلاماً تنقل الواقع المأزوم والمزيّف والمبني على كفوف الحرب الأهلية، ولم يتمكّنوا بأعمالهم من التجييش للثورة والدفع إليها، فإنّ أيّ عمل يقدّمونه الآن، لن يكون سوى محاولة لـ «ركوب» الثورة. وبهذا لن يختلفوا عن السياسيين الذين يريدون «ركوب» الثورة ذاتها.
أي فيلم سينتج قريباً مدّعيّاً أنه ينقل ما يحدث، سيوضع في خانة السذاجة، ولن يمتّ بصلة لما يحصل واقعياً، وأسباب حصوله، بل سيكون مجرد عمل لإرضاء الذات والمهرجانات العالمية التي تلهث لعرض هذه الأفلام، رغم أنها لن تقدم جوهر الثورة. من يفكر اليوم في صنع فيلم عن هذه الثورة وعرضها لأهداف شخصية، عليه ألا ينسى بأن الكاميرا لا تكذب، والسينما ستفضح نواياه. تصوير ثورة شعبية ونقلها إلى الشاشة الكبيرة عملية دقيقة تتطلب تَفكّراً وتروياً. السينما التي ستتحدث عن هذه الثورة، عليها أن تكون مسؤولة عما تقدمه أمام المشاهد وتضاهي حجم الانتفاضة. إذ أن تاريخ السينما أكّد لنا من خلال الأفلام الكثيرة التي أنتجت عن الثورات والحروب، أنه يجب مرور على الأقل 10 أو 15 سنة بعد ثورة معينة، كي يكون لدينا فيلم يقدّم ما حدث بشكل يعطي أحقية لهذا الحدث بحدّ ذاته... المسألة بحاجة لتأنٍ إذاً.