البندقية | «الأرض تحترق» هكذا كُتب على إحدى اللافتات المرفوعة على السجادة الحمراء قبل احتفال توزيع جوائز «مهرجان البندقية السينمائي» الـ ٧٦. احتل «حماة المناخ» السجادة الحمراء خلال النهار، وبدأت، في المساء، الاستعدادات لاحتفال توزيع الجوائز. الاعتصام والاحتفال والجوائز جاءت كلّها كمفاجأة لم يتوقعها أحد. لم يتخيّل أحد، بدءاً من أشد المتحمسين للفيلم إلى المخرج نفسه، أنّ «جوكر» سوف يحرز جائزة أفضل فيلم (الأسد الذهبي). للمرة الأولى، يفوز فيلم مقتبس عن «الكومكس» بجائزة مرموقة في مهرجان سينمائي عالمي. أعلم جيداً ما تعنيه هذه الجائزة لموجة الأفلام المقتبسة عن القصص المصوّرة وخاصة لـ «دي سي كومكس»، لكن لا أعلم ما الذي كان يدور في رأس لجنة التحكيم ورئيستها المخرجة الأرجنتينية لوكريسيا مارتل لإعطاء هكذا جائزة لهكذا فيلم. ليس لأن العمل ليس جيداً، بل على العكس، لكنه بالتأكيد لا يستحق جائزة عالمية مثل أسد البندقية الذهبي. قد يكون تود فيليبس أحد أضعف المخرجين (أو أضعفهم بالفعل) ممن فازوا بالأسد الذهبي. كما لا يمكن مقارنة فيلموغرافيا فيليبس بفيلموغرافيا أكثرية المخرجين الذين كان ينافسهم.في الحقيقة، كان من الصعب تجاهل الفيلم خلال توزيع الجوائز، ولكنّ لجنة تحكيم أخرى في مهرجان آخر كانت لتكون ربما أكثر إنصافاً لبقية المنافسين وللممثل واكين فينيكس بإعطائه جائزة أفضل ممثل. فلولا واكين، لما كان هناك فيلم في الأساس. هذا ما قاله المخرج نفسه عند تسلّمه الجائزة: «لا فيلم من دون واكين فينيكس. هو الأسد الأشد والألمع والأكثر انفتاحاً من بين الذين أعرفهم. شكراً على ثقتك بي في موهبتك المجنونة». من المؤكد أن الطريق إلى الأوسكار مفتوح الآن للفيلم على نطاق واسع.

جائزة لجنة التحكيم الكبرى نالها فيلم «إني أتهم» لرومان بولانسكي

إحراز «جوكر» الأسد الذهبي هو حدث كبير ومفاجئ بحدّ ذاته للجميع، لكنه لا يعني سوى خلق نوع من التوازن في توزيع الجوائز. فمن قواعد المهرجان أن لا يأخذ الفيلم أكثر من جائزة واحدة مع بعض الاستثناءات القليلة. في الحقيقة إن جوائز البندقية هذا العام لم تكن عادلة، لكنها معقولة. في النهاية كما قالت رئيسة لجنة التحكيم «كل واحد منا أحبّ فيلماً لم يحصل على جائزة. لسوء الحظ أنّ ٧ جوائز لـ٢١ فيلماً هو رقم قليل للغاية». بعد مفاجأة الأسد الذهبي، جاء الخبر العظيم المستحق: «إني أتهم» لرومان بولانسكي حصد جائزة لجنة التحكيم الكبرى، وهي الجائزة الثانية بعد الأسد الذهبي. على الرغم من عدم قدوم بولانسكي وعدم حضور رئيسة لجنة التحكيم لحفل عشاء الفيلم، جاءت الجائزة مستحقة، لكن متناقضة، بخاصة لمارتل التي أعطت الجائزة لمخرج لم تكن سعيدة بمشاركته في المهرجان كونها لا تفصل العمل الفني عن الفنان. تسلمت زوجة المخرج الممثلة إيمانويل سينيه الجائزة، وقالت: «أريد أن أشكر لجنة التحكيم على الجائزة، ورومان بولانسكي يريد أن يشكر منتجيه».
جائزة متوقعة ومستحقة حازها فيلم «عن الخلود» للسويدي روي أندرسون الذي لم يحضر احتفال توزيع الجوائز لضرورات مهنية. تكمن سينما أندرسون في الملهاة المأساوية عن الإنسان وطريقة عيشه. لا علاقة مترابطة في أفلامه بين المشاهد والشخصيات، لكنها لا تخلو من المفاجآت والصدمات النفسية. ويستحسن عدم ملاحقة قصص أفلامه، إذ ليس لها ترتيب سردي واضح. تسيطر الفوضى على المشاهد بطريقة سريالية، فتكون الأفلام عبارة عن قصص وأحداث ولقطات غير منظمة، عشوائية، عبثية ومن دون هيكل واضح.. كأنها عبارة عن حياة الإنسان، من مختلف جوانبها المتخبطة. تختلط القصص والمشاهد والمعزوفات الموسيقية بطريقة غريبة عندما يعرض أندرسون الحياة اليومية لبعض الشخصيات، فيكون جزء منها مأساوياً والبعض الآخر سريالياً، من دون نسيان العنصر الكوميدي.

حاز اللبناني أحمد غصين ثلاث جوائز في أسبوع النقاد عن فيلمه «جدار الصوت»

جائزة أفضل ممثل وأفضل ممثلة كانتا مفاجئتين وغير مستحقتين على الأقل في نظري الشخصي. الممثلة أريان أسكاريد نالت جائزة أفضل ممثلة عن فيلم «غلوريا موندي» للمخرج الفرنسي روبير غيديغيان (أريان أسكارد تستحق الجائزة عن أعمالها السابقة ليس عن عملها هذا). فيلم عائلي غير مقنع عن الطبقة العاملة الفرنسية، إذ لم يجد المخرج مفتاح السيناريو الصحيح. أراد نقد المجتمع المعاصر الذي تسوده المشاكل الاقتصادية في الحياة اليومية لأشخاص ينتمون إلى طبقة اجتماعية واحدة، لكنه جلب جميع العناصر المطلوبة وضخها لأقسى الحدود، من استخدام المخدرات الذي يتكرر أكثر من اللازم إلى العلاقات خارج الزواج، والجريمة، والأزمات الاقتصادية والصعوبات في إعادة اندماج المساجين في المجتمع بعد قضاء عقوبتهم. العبث المتزايد والأحداث الكثيرة في الفيلم لا تساعد على سرد القصة، بل تجعلها غير مثيرة للاهتمام. أما أداء الممثلين، فكان رتيباً بدون تعبير رغم موهبتهم التي لا جدال فيها. فيلم لم يترك أي بصمة في المهرجان، لكنه حصد جائزة أفضل ممثلة. كنت أتمنى أن أرى كاترين دونوف أو جولييت بينوش تتسلم الجائزة عن دوريهما في فيلم «الحقيقة» لهيروكازو كوريه ايدا، أو حتى ماريانا دي جيرولامو لدورها في فيلم «إيما» لبابلو لارين. لكنّ الفيلمين خرجا بخفي حنين.
الإيطالي لوكا مارينيلي حصد جائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم «مارتن إيدن» للإيطالي بياترو مارتسيلو. الفيلم كان جيداً ومرشحاً لربح الأسد الذهبي، إذ يقدم إحساساً كبيراً بالسينما وشعوراً بالانغماس في الحالة السينمائية، حيث الواقع بكل ما فيه من مآس وتناقضات. فيلم جميل عن اللامساواة والصراع الطبقي في أوائل القرن التاسع عشر، وعن بحّار يريد أن يصبح كاتباً يرقى فوق نفسه وبيئته. قدم مارينيلي أداءً جيداً، لكنه بعيد كل البعد ولا يمكن مقارنته بأداء واكين فينيكس في «جوكر» أو مارك ريلانس في فيلم «في انتظار البرابرة»، هذا الفيلم الرائع الذي عُرض في آخر أيام المهرجان وكان غائباً أيضاً في حفل توزيع الجوائز بطريقة غير عادلة. ومنحت جائزة تحكيم خاصة لفيلم «المافيا لم تعد كما كانت عليه» للإيطالي فراكو مارسكو. فيلم وثائقي بلهجة كوميدية، يسخر من الدعم الاجتماعي للمافيا في باليرمو. يستخدم المخرج الأساليب نفسها التي يلجأ إليها الأميركي مايكل مور في أفلامه النقدية لتصوير خوف لا يزال موجوداً بين رجال العصابات ويشير إلى علاقة بين كوزا نورسترا (المافيا في صقلية) ورئيس الجمهورية الإيطالي سيرجيو ماتاريلا.
الرسوم المتحركة دخلت قائمة الجوائز بفيلم No.7 Cherry Lane للمخرج يونفان (هونغ كونغ). فيلم يشيد بالثقافة في هونغ كونغ من دون إشارة سياسية إلى الوقت الراهن. وقد حصل على الجائزة بسبب الفن والرسم والموسيقى والأدب والعلاقات الإنسانية والتحرر. ولنكن منصفين؛ ففيلم «قصة زواج» لنواه بومباك هو الأحق بالجائزة، مع السيناريو الرائع الذي قدمه عن قصة الحب التي نشهد نهايتها. كما فازت المخرجة الأسترالية شانون مورفي إحدى المرأتين المنافستين في المسابقة الرسمية بـ «جائزة مارسيلو ماستروياني لأفضل ممثل ناشئ» التي راحت للممثل توبي والاس عن دوره في فيلمها Babyteeth.
لولا واكين فينيكس الذي لم يُمنح جائزة أفضل ممثل، لما كان هناك «جوكر» في الأساس


وللعرب حصة كبيرة من الجوائز في هذه الدورة. بعدما أحرز المخرج اللبناني أحمد غصين ثلاث جوائز في أسبوع النقاد (الجائزة الكبرى، جائزة الجمهور، وجائزة أفضل مساهمة تقنية) عن فيلمه «جدار الصوت»، حصل المخرج السوداني أمجد أبو العلاء جائزة «أسد المستقبل» عن فيلمه «ستموت في العشرين». وفي مسابقة «آفاق»، نال الممثل التونسي سامي بوعجيلة جائزة أفضل ممثل عن «بيك نعيش» للمخرج مهدي برصاوي. وأخيراً، حصلت المخرجة السعودية شهد أمين في «سيدة البحر» على جائزة «فيرونا» عن فئة الفيلم الأكثر إبداعاً، ضمن أسبوع النقاد في المهرجان. وبعدما أحرز فيلم «روما» لألفونسو كورون من إنتاج «نتفلكس» جائزة الأسد الذهبي العام الماضي، خرجت شركة الستريمينغ الأميركية هذه المرة بلا جوائز، رغم أنّها شاركت في المسابقة الرسمية بفيلمين هما «قصة زواج» و«لوندرومات». أفلام ربحت باستحقاق وأخرى بغير وجه حق، ولكن الخاسر الأكبر في المهرجان هو الفيلم الذي كان يستحق عن جدارة جائزة الأسد الذهبي، أي فيلم «الطائر الملون» للتشيكي ماكلاف مرهول.