منذ انتصار الثورة الكوبية عام 1959، كانت السينما من بين الاهتمامات الأولى للحكومة الجديدة، اقتناعاً منها بصدى النداء اللينيني القديم والبعيد: «من بين كل الفنون، الأكثر أهمية لنا هي السينما». بعد ثلاثة أيام من دخول الرجال الملتحين إلى هافانا، بدأ العمل على إنشاء «ICAIC ــــ المعهد الكوبي للفن وصناعة السينما» (أول عمل ثقافي للحكومة). دأبت الحكومة الجديدة على إيجاد وسيلة لتثقيف الناس وتحسين جودة الأفلام، فالسينما ووسائل الإعلام كانتا الوسيلتين الأفضل للوصول إلى العامّة. في آذار (مارس) 1959 أي بعد ثلاثة أشهر فقط من نجاح الثورة؛ قدم المعهد توضيحين: «السينما فن» و«السينما تشكل أداة رأي وتكوين وعي فردي وجماعي»، وضوى المعهد العديد من صناع الأفلام تحت عباءته. مع بدء الجزيرة في الدوران أكثر فأكثر في مدار الاتحاد السوفييتي، جاءت فكرة دعوة مجموعة من المخرجين السوفييت إلى التصوير في كوبا، في إنتاج مشترك بين ICAIC و Mosfilm الروسية. في عام 1961، وصل المخرج الروسي ميخائيل كالاتوزوف (1) ومدير التصوير والمخرج سيرغي أوروسيفسكي (2) إلى هافانا لتصوير قصيدة سينمائية، وأمضيا فيها سنتين من البحث وتصوير مشاهد تعبّر عن روح الشعب الكوبي والحركة الثورية، وتصوير مراحل تطور كوبا البطيء من نظام باتيستا إلى ثورة فيدل كاسترو عبر قصص تحرير كوبا من التبعية السياسية إلى ترسيخ هويتها الفريدة والمستقلة بالرغم من تناقضاتها وآمالها... فكان «أنا كوبا» ( Soy Cuba ــــــ 1964).

من الفيلم

بعيداً عن الدوافع السياسية والأيديولوجية لإنتاج الفيلم، «أنا كوبا» هو نعمة سينمائية لأولئك الذين يحبون كوبا والسينما. هذا العمل الاستثنائي مقسّم إلى أربعة فصول، يؤدي أدواره ممثلون غير محترفين، أو على الأقل غير معروفين بالنسبة إلى عامة الناس. يصوّر الفصل الأول كوبا الغنية، الوهمية بفنادقها الفخمة حيث السياح الأميركيون الأثرياء يحتفلون ليلاً نهاراً باحتساء الكحول والدفع مقابل الجنس، وقصة ماريا التي تعيش في جزء من كوبا المخفية عن أعين السياح، وتعمل في الدعارة من دون رغبة في ذلك. الفصل الثاني هو قصة بيدرو المزارع الفقير الذي يعمل منذ سنوات بالعرق والدم في حقل قصب السكر عند مالك أرض حقير. يعيش في كوخ تضربه الشمس كما تضرب الأحلام رأسه يومياً. يعمل مع طفلَيه مقابل القليل ويعطي الأقل لأطفاله لشراء الكوكاكولا، وهم راضون، ولكن بيدرو ليس راضياً، لا سيما عندما يعلم أن الأرض التي يعمل فيها قد بيعت لشركة أميركية.
تقوم مجموعة من البحارة الأميركيين السكارى، الذين يشعرون بالملل الشديد، بافتتاح الفصل الثالث الذي يركّز بشكل أساسي على تمرّد الطلاب ضد ديكتاتورية فولغنسيو باتيستا. يندفع أنريكي ـــــ الطالب في جامعة هافانا ــــ لإنقاذ فتاة تتعرّض للمضايقة من قِبل البحارة، فتندلع شرارة المصالح المتصارعة. يأتي ماريو وعائلته الذي يعيشون في فقر مدقع في جبال سييرا مايسترا، ليفتتحوا الفصل الأخير. هؤلاء يخفون ثائراً مصاباً وجائعاً إلى أن تقصف بيتهم طائرات باتيستا، ويعثر ماريو على الثوار فينضم إليهم بأسلحة بدائية الصنع للقتال من أجل الحدّ الأدنى من الحرية.
الفيلم عبارة عن ملحمة سينمائية بصرية، تحفة حوّلت كوبا إلى بلد فريد من نوعه بمشاهد طويلة متواصلة باستخدام العدسات ذات الزاوية العريضة، وبحركة كاميرا بهلوانية تتحدى الجاذبية، وهي تنزلق بانسيابية على البنايات، وتعبر الجدران والنوافذ في مشاهد استثنائية حفرت في ذاكرة السينما. فيلم غزير بصرياً، قريب من السينما الصامتة، ذو نفس شاعري بدرجة إتقان عالية، كمشهد الجنازة الذي استُبعدت فيه المؤثرات الخاصة، فدقة الكوريغرافيا لحركة الكاميرا الهندسية والتصوير الرائع، والممثلون الذين يتم ترتيبهم بأناقة... كلّها عناصر أسست للعبة ديناميكية من الإيقاعات والأضواء والأحاسيس المرتبطة بها. الفيلم باختصار، عالم آخر، حرفة فنية سينمائية يدوية بحت.
من الناحية السياسية، يعتبر الشريط بروباغندا تمجد المُثل الشيوعية ضد الرأسمالية. نجد في الفصل الأول كيف حوّل الاستعمار الأميركي الجزيرة إلى كازينو وملهى جنسي كبير، ممثَلاً بالفتاة الجميلة ماريا/ بيتي ذات الاسم السهل نطقه باللغة الإنكليزية. يتم جرّها من يد إلى يد خلال رقصة تتوج بنشوة الألم والكرب في مكان مأهول بكائنات تلتهم أفراح الآخرين وتتلاعب بمشاعرهم في انحطاط روحي ومادي. يبيّن هذا الفصل التناقض بين الأماكن الفخمة والأحياء الخارجية الفقيرة في وضح النهار، ونظرة بائع الخضار الشاب ذي النوايا الطيبة تجاه حبيبته ماريا، المكسور أمام الغزاة. نظرة تكشف الوجه الخفي للمتعة بكلفته الداعمة للرأسمالية التي تفرض جدلية غير إنسانية للإنتاج والاستهلاك.
هذا التحريض السينمائي ــــ عبر تصوير التناقضات الممزقة ـــ نجده بالتوازي مع فورة الغضب والعجز التي تعرّض لها الفلاح بيدرو في الفصل الثاني، هذه المرة من مالك الأراضي الإسباني الذي يبيع أرضه لشركة أميركية، في إشارة واضحة للتدخل السياسي والاقتصادي في كوبا في ظل طموحات مبدأ مونرو في الولايات المتحدة الأميركية.


يصوّر كلّ من بيتر وماريا شاعرية البؤس والتمرد بسبب العجز. يعيشان وسط طبيعة ومناظر خلابة، ولكن السحاب الأسود يحجب الشمس، ودخان السجائر والنار يخنقان الشوارع الملطخة بالبؤس والمجمدة في الزمان والمكان بسبب مصير لا يمكن إصلاحه... «من المسؤول عن هذا الدم وعن هذه الدموع؟» يرثي صوت أنثوي كوبا في نهاية الفصلين. هنا السؤال ليس بلاغياً. المونتاج المسكون بالأيديولوجيا، يغيّر الصورة هنا للتركيز على باتيستا رئيس كوبا منذ ثورة العرفاء.
في بقية المشاهد، يقدّم «أنا كوبا» الرد السياسي والعسكري والمعنوي على الحالة السابقة التي شاهدناها. إن تاريخ الطالب الجامعي في هافانا وتاريخ الفلاح في الجبال، هي الآن قصص تهدف إلى خلق الثورة، تدعو المواطن للانضمام إلى الكفاح المسلح بعد إدراكه الحاجة الملحّة للثورة بوجه عدو لا يرحم، أو شعور بضيق العيش بسلام.. الآن يظهر عنف النظام الضمني وغير الصريح، لأنه لا يقاتل ببندقية فقط لكن مع جهاز عسكري قمعي وقانون مزور.
الفصلان الأخيران أكثر نشاطاً وأقل شاعرية من الأجزاء السابقة التي حولت الخراب إلى غضب. لكن التعبير عن هذا الغضب لم يتعارض مع الجمال. فرغم أنه يُظهر التضحية عبر الشهادة والموت، إلا أنّ مشهد الصبي ـــ مثلاً ـــ الذي يُلقى تحت سيل الأمطار، ذو جمال فائق، إضافة إلى مشهد رحلة الأشخاص والهتافات التي تتعقب التابوت المجيد للشهيد في زخم كاميرا بهلوانية لم يسبق لها مثيل. في النهاية، اللمعان الجمالي هو لمعان الثورة الكوبية.
«أنا كوبا» فيلم رسمي بالطبع، استعان المخرج بالحكومة والعسكر. في أحد المشاهد، طلب المخرج من راوول كاسترو 5000 عسكري للتصوير، ووافق راوول مرسلاً العساكر إلى الجزء الشرقي من الجزيرة. وأعلم الضباط بذلك، مع التأكيد بأن النقل هو بسبب التصوير وليس لدواعي عسكرية.
يظهر الفصل الأول كيف حوّل الاستعمار الأميركي الجزيرة إلى كازينو وملهى جنسي كبير


لم يكن ليتم إنتاج الفيلم لولا إصرار الحكومتين الكوبية والسوفييتية على ضرورة إكماله. لكن القوة المدهشة للصورة، تعبّر عن أهمية أكبر للرسائل والحجج الكامنة وراء إنتاجه، من خلال الأجزاء الأربعة التي ما هي في الواقع إلا حوار بين الفصلين الأولين (القمع والاستغلال قبل الثورة) والفصلين الأخيرين (رد الفعل والرد الثوري).
وبما أنه يُعتبر فيلم بروباغندا، تستند خلفية الشريط إلى مفاهيم نمطية ترفع الصوت عالياً بتفرد وجرأة وموهبة وإبداع في المشاهد التي اختارها المخرج ومدير التصوير. عرض الفيلم للمرة الأولى في كوبا عام 1964 وبعد ذلك في روسيا. لكنه تسبّب في خيبة أمل كبيرة في كوبا. إذ كانت «القصيدة الملحمية» مملةً وطنانةً. لم يتقبّل الكوبيون رؤية الحماس الملحمي للثورة مبسَّطاً بهذه الطريقة وبوجهة نظر غريبة وغير كوبية، فسُحب العمل من الصالات بعد أسبوع. في الاتحاد السوفييتي، لم يكن الوضع أفضل. لم يفهم المشاهدون تلك الثورة الاستوائية التي تأتي من بعيد، بل كانت هناك مشكلة إضافية تكمن في أن الفيلم يمثّل دولة استوائية في العصر الرأسمالي بعد عقود من الانعزالية عن الاتحاد السوفييتي، فكانت رؤية العبث والفوضى أكثر جاذبيةً من الحياة الصعبة في ظل النظام السوفييتي البيروقراطي. واعتبرت السلطات أنه لم يكن من المناسب عرض الفيلم.
لُعن العمل واختفى لمدة ثلاثين عاماً، بالتحديد حتى عام 1995... إلى أن أتيح للمخرجيَن الأميركيين مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا نسخة الفيلم. هكذا، قاما بترميمها وأعادا توزيعها على المهرجانات العالمية (عرض في «مهرجان كان» عام 2003). بعد ثبات عميق، عاد الفيلم ليتصدر لوائح الأفلام العالمية، بصفته علامةً فارقةً في تاريخ السينما ونصباً تذكارياً للصورة وتحفةً نسيها العالم لعقود. وها نحن اليوم نكتب عنه في الـ 2019، إذ تم ترميمه أخيراً بتقنية 4K. «أنا كوبا» فيلم ملعون، يرفض الموت، يتحدى الزمن، ويلخّص بعنوانه محتواه ذلك الجسر الممتدّ بين الماضي والحاضر... بين التاريخ والذاكرة.

(1) ميخائيل كالاتوزوف (1903 ـــــ 1973) مخرج روسي مخضرم بدأ بصناعة الأفلام منذ عام 1930. معروف بفيلمه The Cranes Are Flying الذي حصل على جائزة السعفة الذهبية في «مهرجان كانّ السينمائي» عام 1958.
(2) سيرغي أوروسيفسكي (1908 ــــ 1974) شخصية مخضرمة أخرى في السينما السوفييتية، عمل مع العديد من المخرجين السوفييت، ربطته علاقة قوية بكالاتوزوف وعملا معاً.