لولا التظاهرات الاستعادية وأسابيع الأفلام الأجنبيّة، لانتظر السينيفيليّون في بلداننا طويلاً قبل أن يُتاح لهم التنعّم بكامل «عطايا» المهرجانات الكبرى والسينما المغايرة. ذلك أنّ بعضها يأخذ وقتاً «طبيعياً» في التجوال الدولي، وعقود التوزيع، قبل أن يصير متاحاً على نطاق واسع. قسم آخر يتعثّر لأسباب عدّة. يتأخّر وصوله لسنوات، وقد لا يفعل أبداً. حتى محترفو القرصنة والتورنت، ربّما لا يجدون ضالّتهم في أزقّة الويب وعالمه السفلي. التقاط عناوين كتلك يبقى مرهوناً بتظاهرات متخصّصة، تنظّمها جهات مثل «جمعية متروبوليس». أقسام «مهرجان كانّ السينمائي» المختلفة من أهمّ الاستعادات. من حسن الحظ أنّه منذ 2006، أخذت «متروبوليس أمبير صوفيل» على عاتقها جلب «أسبوع النقاد» من الكروازيت إلى الأشرفيّة. اليوم تبدأ عروض كامل برنامج الدورة 58 من الأسبوع، التي أقيمت ضمن الدورة 72 من «مهرجان كان»، بالتعاون مع «المعهد الفرنسي في لبنان».
ما هي أهمية «أسبوع النقاد»؟
إنّه أقدم الأقسام الموازية للمسابقة الرسميّة. تنظّمه جمعية نقاد السينما الفرنسيّة منذ 1962 للتعريف بالأعمال الأولى والثانية لمخرجين من أصقاع العالم، فاتحةً أمامهم المشهد الدولي والأسواق الواعدة. مكرّسون من أمثال وونغ كار واي، وكين لوتش، وجيف نيكولز، وليو كاراكاس، وريبيكا زلوتسكي، وغاسبار نوي، وجاك أوديار، وآرنو دبلشان، وفرانسوا أوزون... أقلعوا من هنا. كذلك، لدينا هاني أبو أسعد، وتوفيق أبو وائل، ومرزاق علواش على الصعيد العربي. مع اتسامها بمستوى عالٍ من الصدقية والانتقائيّة، اكتسبت هذه التظاهرة أهميّة متزايدة على مدى أكثر من نصف قرن. باتت لها جوائز مستقلّة عن التتويجات الرئيسة. بعد اقتصار الخيارات على أوروبا العام الماضي، يعود القسم إلى استكشاف الجديد والمختلف، بالانفتاح على تنويعات من آسيا وشمال أفريقيا وأميركا الجنوبيّة. ثمّة فضول تجاه بلدان ما زالت تحبو سينمائياً مثل غواتيمالا وكوستاريكا. مشاركة عربيّة وازنة عبر شريطين مغاربيّين طويلين («أبو ليلى» للجزائري أمين سيدي بومدين، و«سيّد المجهول» للمغربي علاء الدين الجم)، وآخر مصريّ قصير هو «فخ» لندى رياض. نقطة أخرى للتنويه هذه السنة: أميركا ليست هنا. فنيّاً، يمكن تسجيل ملاحظتين أساسيتين. طغيان أفلام الجانر/ النّوع بين خيال علمي وأنيماشن وويسترن وفانتازيا كوميديا بورليسك والطريق، وأحياناً امتزاجها وعبورها لبعضها البعض، ومجيء معظم صنّاعها من خلفية الفنون البصريّة والتجهيز والتصميم.

أفلام عربيّة
أمين سيدي بومدين (1982) من شباب السينما الجزائريّة الجديدة، التي تتمرّد على السرد الكلاسيكيّ، والقوالب العتيقة، والتأطير الرسمي، وبورتريهات مناضلي ثورة المليون شهيد. لا ضير في التعبير عن توجّهات متنوّعة، ولكن لا بدّ من الإقرار أنّ أسماء مثل كريم موسوي وصوفيا جاما وحسن فرحاني وطارق سامي... حققوا اختراقات دولية كبيرة. مزجوا شتّى الأنواع الفيلميّة، للخروج بمنظور مغاير لواقع شائك. في باكورته الروائية الطويلة «أبو ليلى» (135 د. ـــ 29/7)، يعود بومدين إلى عام 1994، إذ ما زالت العشرية السوداء حقبة سينمائية مفضّلة في الجزائر. المدن مشتعلة. «لطفي» و«أس» صديقان منذ الطفولة. يعبران الصحراء من الشمال إلى الجنوب، بحثاً عن الإرهابي الخطير «أبو ليلى». «أس» مضطرب عقلياً بهلاوس متكرّرة. لطفي مهموم بإبعاد رفيقه عن عنف العاصمة. الإرهاب لم يبلغ هذه البقعة بعد. ولكن من قال إنّ الاحتكاك برمال مترامية لن يحفّز عنفاً كامناً داخل النفوس؟ بومدين دارس للسينما في باريس، كما أنّه ابن موسيقى الروك. يقول الكثير بمزيج بين فيلم الصداقة Buddy Movie، وفيلم الطريق، والإثارة النفسيّة، والرعب، وحتى فانتازيا مصّاصي الدماء. يخاتل بين الخير والشر، الظاهر والباطن، التلميح والصمت. لا يريد حصر شريطه بقراءة قاصرة على العشرية السوداء. العنف كان وما زال وسيبقى. إنّه متأصّل ومتجذّر، ولا يكتفي بعشرية أو سواها. في النهاية، إنّه تطهير لشخصيتين متباينتين، ضمن مطاردة عبثيّة، كواقع البلاد التي تجري فيها.
الحال مختلف في «سيّد المجهول» (23/7) لعلاء الدين الجم (1988). لصّ (يونس بوّاب) يلجأ إلى دفن حقيبة مال في مكان مقفر، قبل لحظات من إلقاء القبض عليه. ينهي سنوات السجن. يخرج، ليباغت بقيام «ضريح سيّد المجهول» فوق مكان الدفن، مع قرية لخدمة المزار. يتربّص الحرامي، داخلاً في علاقات ومسارات للعثور على حل، لن يتحقق دون مفاجآت «انفجاريّة» صادمة. من المثير للاهتمام مشاهدة «ويسترن» مغاربي، يخلط بين البورليسك والعبث و«التحرّش» الفكاهي بثقافة «الأولياء الصالحين» (الحيلة المتجدّدة باللجوء إلى الطرافة لانتقاد التابوهات). كما في شريطه القصير «سمك الصحراء» (2015)، ينقب خرّيج مدرسة الفنون البصريّة في مراكش ضمن مجتمعات ريفيّة نائية، واضعاً الفرد أمام الطبيعة والجغرافيا الخام. هكذا، يرتدّ إلى قرارة الحقيقة كما هي. خيار الإضحاك ليس غريباً عن نشأة علاء الدين. هو ابن أخ الكوميدي الشهير محمد الجم. صقل مهارات السيناريو والإنتاج في مراكش وبروكسل ولوكارنو وصندانس.
من العروض الخاصّة، يمكن إضافة «تستحق حبّاً» (24/7) للفرنسية من أصل تونسي حفصية حرزي. رأيناها ممثّلةً في عدد من أعمال عبد اللطيف كشيش، حتى أنّها تعمل مع بعض وجوه فريقه. تيسون وصف الفيلم بأنّه «ما بعد الموجة الجديدة». قصّة حبّ وفراق وقسوة، إثر انفصال ريمي عن لِيْلا، بسبب اكتشاف خيانة. تعجز المرأة عن قبول الانفصال، فهي تحبّه كثيراً. يُخبرها بقراره السفر إلى بوليفيا لمواجهة نفسه، ومحاولة فهم أخطائه، إلا أنّ الأمور لا تنتهي هنا. يستمرّ بينهما الجدل الأخلاقي والحسّي وحتى الوجودي.
الحضور المستمر لسينما المغرب العربي في المهرجانات الكبرى ليس مصادفةً. ثمّة منهجية في الاشتغال على أفلام فنيّة، من صنع أكاديميّين دائمي التطوّر. استفادة من القرب الجغرافي والتقني والاختلاط بأوروبا. تجارب أبناء المهاجرين الكثر. تشبيك مع شبكات ولوبيات قويّة في الإنتاج والتوزيع. كلّها عوامل باتت أساساً لوصول الفيلم إلى منصّات كهذه.

سينمائيو الفنون البصريّة
في «فيفاريوم» (97 د. ـ جائزة توزيع – 26/7)، يوجّه الإيرلندي لوركان فينيغان نقداً لاذعاً للحياة المعاصرة، من خلال زوجين يحصلان على منزل ضمن تجمّع سكنيّ منعزل. بيوت المنطقة متماثلة تماماً. الاختلاف بالأرقام لا أكثر. هكذا، يخوض الاثنان رحلة تغيّر حافلة بالضغط النفسي، والظواهر الخارقة الممتزجة بالطبيعة القريبة من المكان. خيال علمي اجتماعي، مع فسحة من السخرية الحالكة، عن تآلف الإنسان مع المحيط، وعن عقد اجتماعي يفرض نفسه على الجميع. هذا تطوير لفيلم فينيغان القصير «ثعالب» (2012)، إذ يحافظ على الشراكة مع السيناريست غاريت شانلي. كذلك، ثمّة شيء من باكورته في الروائي الطويل «بلا عنوان» (2016). مصادر التأثير متعدّدة. وثائقي معروف لديفيد أتينبورو. تجهيزات بصريّة، وتشكيل، بما أنّه درس التصميم قبل التفرّغ للسينما. الحصيلة شريط محكم، يقع بين المسلسل الستيني الشهير The Twilight Zone لرود سيرلنغ و«مسلسل ترومان» (1998) لبيتر واير.
الآيسلندي هلينور بالماسون وافد آخر من دنيا الفنون البصريّة. يحطّ بـ «يوم أبيض أبيض» (25/7)، ثاني عناوينه الطويلة بعد «أخوة الشتاء» (2017 – أربع جوائز في لوكارنو، وتجوال دولي مكلّل بأكثر من 30 جائزة). ضابط شرطة متقاعد، حزين على رحيل زوجته بحادث سيّارة. تراوده شكوك قيامها بخيانته مع رجل آخر. يبدأ بحث المشاعر، وجسّ النبض، ومناورة المخبوء في الصدور. العنوان آتٍ من مقولة معروفة في آيسلندا. عندما يتلامس بياض الأرض مع بياض الأفق، تزول الحدود بين الجنّة والأرض، ويصبح التواصل مع الموتى ممكناً. إذاً، هو فيلم عن الفقد والحزن، عن الكره والغضب، عن الاهتراء في جغرافيا الصفاء والجمال، إذ يعشّش ويتمدّد معزّزاً الهلاوس والشكوك والخواء الروحي. إخراج بالماسون بارد لحمولة زاخرة بالمشاعر، لكنّه متناسب مع كمونها وباطنيتها. هو خرّيج المدرسة الوطنيّة الدنماركيّة للسينما 2013. أيضاً، ثمّة أداء لافت لإنغفار سيغورشون، الذي عرفناه سابقاً في أحدث أجزاء Fantastic Beasts.
أمين سيدي بومدين من شباب السينما الجزائريّة الجديدة، التي تتمرّد على السرد الكلاسيكيّ، والقوالب العتيقة


الافتتاح بأنيماشن يعدّ أفضل عناوين الأسبوع، والحائز جائزته الكبرى: ««أضعتُ جسدي» (81 د. – اليوم) لجيريمي كلابان. الفرنسي يعود إلى «أسبوع النقاد» بأوّل أعماله الطويلة، بعد مشاركة سابقة بشريط قصير هو (Skhizein (2008 – فتك جائزة الاكتشاف آنذاك، ثمّ حوالى 90 جائزة دوليّة). هو خرّيج المدرسة الوطنيّة لفنون الديكور (ENSAD)، كما أنّه، للمفاجأة، مدرّب تنس. بدأ كمصمّم في الصحافة والنشر، ثمّ في الإعلان، قبل الانتقال إلى الأفلام القصيرة. كلابان لا يقاتل أعزل. يصل برفقة السيناريست الشهير غيوم لوران، شريك جان بيار جونيه في نصّي «أميلي» (2001) و«خطوبة طويلة جدّاً» (2004).
نحن بصدد قصّة حب في باريس التسعينات. نوفل وافد إلى عاصمة النور، إذ يعمل في توصيل البيتزا. غابريال تقطن على بعد 35 طابقاً. منذ البداية، نعلم أنّ نوفل فقد يده «قضاء وقدر»، لكنّها ليست نهاية الكف الوحيد في مختبر تشريح على الطرف الآخر من المدينة. تهرب اليد، لتشرع برحلة بحث فريدة من نوعها، بغية العودة إلى جسد صاحبها. تتقاطع «الشخوص» الثلاث بطريقة غير متوقعة، في مزيج بين واقع وشعر وغرابة قصص غي دو موباسان القصيرة. اشتغال رفيع، يلعب بين لغتين: اليد ككيان مستقل، والحبيبين. هذا ينتشل الحكاية من تقليديتها (طرفان مقدّر لهما اللقاء، ولكن ثمّة حائل بينهما)، لتصبح «فيري تايل» حداثوي أبعد ما يكون عن التوقعات. حرية الخيار والتغيير تتحقق بـ «خيانة القدر»، والاحتيال عليه.
من غواتيمالا، يحطّ «أمّهاتنا» (78 د. – 31/7) لسيزار دياز، الذي حقق الكاميرا الذهبيّة في المهرجان. بينما تتم محاكمة الجنود المتسبّبين بالحرب الأهلية في غواتيمالا، يعمل عالم أنثروبولوجيا شاب مع الطّب الشرعي في التعرّف على المفقودين. هنا، تقوده شهادة عجوز إلى طرف خيط، قد يقوده إلى والده المفقود في الحرب. يغرق في البحث، رغم اعتراض والدته. دياز يفتتح سجلّه في الروائي الطويل، بمتابعة تحرّي فظاعات الحرب الأهليّة الغواتيماليّة ومفقوديها، بعد شريطين وثائقيين، ودراسة السينما في المكسيك وبلجيكا وكورسات سيناريو في La FEMIS.

* استعادة برمجة «أسبوع النقاد»: بدءاً من اليوم حتى 3 آب (أغسطس) ـ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080