قد يكون «طرس: رحلة الصعود إلى المرئي» (وثائقي ـ 1:16 د ـــ 2018) الذي شاهدناه أخيراً في بيروت (ضمن مهرجان «ما بقى تنوصل» في «متروبوليس أمبير صوفيل») بالنسبة للناظرين عملاً طويلاً بدأ منذ عشرين عاماً. لكن هذا ليس عادلاً لأنه يُسقط عن الفيلم أهميته كمنتج سينمائي صار في متناول الجميع، ولم يعد لصاحبه أي سلطة عليه أو تأثير منه. إنه حصيلة عمل جدي امتدّ على ست سنوات. محاكمة الفيلم أو محاكاته تحت اسم غسان حلواني وحده (هو ابن وداد والمفقود عدنان حلواني) ليست عادلة، لأنها ستؤدي إلى تعاطف «معنوي». الفيلم نفسه ليس بحاجة إليه، لأنه محبوك بحِرفة لا تتكئ على العاطفة وتستثمرها، بل تشير إلى وجودها في محال بالكاد تُرى، ومن دون صخب يُذكر. مع ذلك، لا يمكن صرف النظر تماماً عن أنّ حلواني ليس متابعاً عادياً، بل منذ 2000 وهو من الشهود. فجاجة الواقع دفعته إلى التدوين. وجد التدوين غير كاف، ففكّر في الفيلم. الموضوع معقد بحدّ ذاته، لكن الاعتراض على السكوت عنه ليس معقداً. هذا هو بالضبط ما يدعو إليه الفيلم: الاعتراض.لا يفكر كثيراً عندما يجيب. يفكر أكثر عندما يسأل. يعرف جيداً أن الأعمال التي تعاملت مع مفقودي الحرب كثيرة، لكنها غالباً ما تدعو إلى تسويات تعتقد أنها عادلة، أو تروّج لها بأنها عادلة. الفيلم مقسوم إلى عالمين. أندرغراوند الحرب الأهلية، والشكل النيوليبرالي للمدينة الجاثم على الغرفة. العالم السفلي في الغرفة صور تبحث عن الصعود إلى أرض صلبة، غرفة «العمليات»، حيث يحقق ويستعيد من الأرشيف ويبحث. المخيّلة تنتج الصور الميتة التي تتأرجح في غرفتها وتدور في الدوامة ذاتها. والمدينة فوقها تطمس ذاكرة المكان وتتلاعب بأيّ محاولة لبناء ذاكرة جدية. وهذا ما يشرحه حلواني بنفسه الذي يبحث عن هذه الأرضية التي نتحدث عنها. عن مكان يضع فيها الباحث قدمه ويقف ضد محاولات الأرشفة والتسوية بالتكريم الاعتباطي: «المخيّلة لا قعر لها».
في الفيلم، يحمل الشاهد صورة يحاول التنصل منها. يحاول التنصل من نفسه ومن يده التي التقطتها: «مرّ وقت طويل». وهذا ما يفسره غسان بأنه «مزاج عام»، تنصل من ضميره، طالما أن ثمة من يرفع صوته من أجل المفقودين. المجتمع ليس مسؤولاً مباشراً برأيه، لكنه انسحب من مسؤوليته. لا يكفي التعاطف، فذلك أشبه بتحويل القضية إلى تمثال أو إلى صنم، نمرّ قربه، وقد نبتسم وقد لا نبتسم. الفيلم هو الذهاب إلى تلك الغرفة، والمشاركة في رفع الغرفة إلى مكانها في الأعلى، حيث استولت التحولات الرأسمالية على الحياة. ببساطة، يعرف حلواني أن الخطاب في مسألة المفقودين هو خطاب إنساني، لكنه في الوقت عينه يعرف أن الملف والإجراءات وكل شيء آخر هو مسألة سياسية. ولهذا، ينتقل في الفيلم من مرحلة إلى أخرى بتدرج، ليقول إن الحاجة ماسة لتسييس الملف، كمدخل أساسي لتجاوز إشكاليات السياسة. المجتمع ليس أهالي المفقودين، ولن يصير كذلك إلا عندما يصير الملف سياسياً. الجنرال في نهاية الفيلم يقترح نصباً. وهذا ليس عادلاً ليس فقط لأن النصب التذكارية اختزالية، بل لأنه يجعل المفقودين مفقوداً واحداً. يتجاهل الحياة في الغرفة التي تحت، ويكتفي بالحياة التي صنعتها «سوليدير» قرب النورماندي. يوافق حلواني على هذا، ويضيف أن موافقتنا على الحلول الاختزالية تعني بطريقة ما عملية تبادل كارثية بين الضحية والجلاد. وهو محقّ بذلك، لأن النصب لا يجعل الضحية أبدية، وليس هدف الضحية هو تأبيد معاناتها، بل هدفها هو التحديق بمعاناتها والانتصار عليها. رغم كل هذا، حاول حلواني في فيلمه أن لا يكون مسؤولاً عن شعور الآخرين. رفض التلاعب واختار أن يكون المشاهد حراً، وأن يلعب دوره في تحرير المشاهد.
الفيلم مقسوم إلى عالمين: أندرغراوند الحرب الأهلية، والشكل النيوليبرالي للمدينة

وهذا غالباً ما يفسّر عدم إفراطه في المؤثرات. بالنسبة إليه الصورة الفوتوغرافية تموت عندما ننظر إليها. وهذا شائع في مدارس سيميائية عديدة. وبالنسبة للصوت، فقد اختار رامي صباغ ليعمل معه في الموسيقى، لأنه شخص كان واقفاً في الظل. يعوّل غسان حلواني كثيراً على الفيلم كمساهمة في النقاش العام، كمحاولة في الخروج من ترسبات النقاشات القديمة. يعرف أنه سيصطدم بالكثير. شبان اليوم يحتاجون إلى بناء تصورات معرفية جديدة، قبل الحديث عن الوعي. أحد الشبان أخبره أنه قبل الفيلم جاء من مدينة وخرج من أخرى. الناس ليسوا في قفص ولا يتهمهم بالمشاركة بالجريمة، ولا يدعو أحداً إلى مشاركة الضحايا مواقعها. كل ما يحاول فعله هو تحريك أحجار التنصل الجاثمة على قلب المدينة. مدينة الاسمنت التي ترزح تحتها مخيّلات تعبت من العتمة. والعتمة تدرجات مثل الضوء، ليست مطلقة. وقانون العفو العام، كما يقول في شقيه، ينحاز إلى الشق الأكثر ظلاماً. يقسّم الضحايا إلى قسمين. يعفو عن كل ما حدث مع العاديين، ويخرج الذين ساهموا في المجزرة من الغرفة. وهذا نقاش سياسي، ويجب أن يكون النقاش سياسياً، لأن الرأي العام ليس محصوراً بالضحية، بل باحتمالات التضحية بالمجتمع بأسره في حالات الإنكار والنكران. أما في جميع الجوانب الأخرى فالحقيقة أن المجتمع يحاول اختراع الرموز، ونقل المسألة من طابعها المادي إلى الرمزي. يحاول أن يسامح نفسه، بينما لا أحد يطلب التسامح. كل المسألة تتعلق بالصعود من الغرفة العميقة حيث تهشم أرواح ساكنيها منذ أربعين عاماً، إلى المكان الذي يجب أن يكونوا فيه: شاهدين ومنقذين لأنفسهم وربما للآخرين.



مشاريع للمستقبل
يعمل غسان حلواني جاهداً على عرض «طرس: رحلة الصعود إلى المرئي» في جميع المناطق اللبنانية، وهناك مشروعان قريبان، لعرض الفيلم في صيدا (سينما إشبيلية)، وفي صور بالتعاون مع قاسم اسطنبولي. كما عرض في عدد من الجامعات، التي تبقى مكاناً محبباً لعرض الفيلم حسب حلواني، الذي يشير دائماً إلى أن «الفيلم ليس شخصياً» على الإطلاق، ووظيفته إعادة إطلاق نقاش سياسي في المسألة. في هذا الصدد، لا يخفي رغبته بضرورة عرض الفيلم في «بيئات» لبنانية مسيّسة وحزبية، على أمل أن يحرك ذلك النقاش، ويسهم في إنتاج معرفة مختلفة لدى الشبان الذين تُختصر المعرفة بالنسبة إليهم بالسائد طائفياً.