بعد إنجازه نحو عشرة أفلام روائية طويلة، بات بإمكاننا أن نقول باطمئنان: سينما عبد اللطيف عبد الحميد (1954). بمعنى آخر، سينما البهجة، فنحن بالكاد نجد انقطاعات حادة بين فيلمه الأول «ليالي ابن آوى» (1989) وفيلمه الأخير «عزف منفرد» (2018) الذي شاهدناه أخيراً في «سينما سيتي» في دمشق. هناك تقاطعات واضحة في بناء الحبكة، والاشتغال على ثيمة بسيطة وشحنها بجرعات كوميدية مشبعة، مراهناً على مهارة البساطة لا مهارة التعقيد، في سرده البصري الموازي لصناعة المفارقة التي تنطوي على حسّ ريفي أصيل في المقام الأول. حتى في حال اشتبكت بعض أفلامه بموضوعات مدينية (العاشق) مثلاً. هكذا اختط عبد اللطيف عبد الحميد، فيلماً وراء آخر، بصمته الشخصية كتابةً وإخراجاً. لكن ما يجمع هذه الأفلام هو الاشتغال على موضوعة الحب التي تتكرّر بتنويعات مختلفة. هكذا ينافح صاحب «ما يطلبه المستمعون»، و«رسائل شفهية»، و«نسيم الروح» عن شخوص أفلامه حتى الرمق الأخير، بنوع من النبالة، متكئاً على مخزون ثري من المفارقات الحياتية عن بشر مهملين ومنسيين، بالكاد نلتفت إلى مكابداتهم. لكن عدسة مكبّرة ستضيء حيواتهم من الداخل من دون مراوغة. ليست الذاكرة الشخصية وحدها ما يعيد البريق إلى هؤلاء الهامشيين، إنما تلك الجرعات الكوميدية الممزوجة بألم شفيف يرغمنا على التضامن مع قضاياهم. وتالياً فإن تلك السخريات الصغيرة تتعلّق بالمواقف الحرجة لا بالشخصية نفسها. وبشكلٍ ما، فإن أفلام مخرجنا، هي متوالية سردية بخط بياني متعرّج لا يخلو من مطبات في المسافة بين شريطٍ وآخر. ذلك أن حسّ النكتة يغلب على ما عداه في البناء الحكائي لمصلحة الضحك المرّ وهزليات الحياة المضطربة التي تطيح الأحلام الصغيرة بأقصى درجات القسوة. وبناءً على ذلك، فإن هذه السينما مشغولة بإيصال المعنى أكثر من عنايتها بالجماليات البرانيّة للكادر، في رهان على الصدق والبساطة والنقاء.
شريطه الجديد «عزف منفرد» (المؤسسة العامة للسينما في سوريا) يصبّ في المجرى نفسه، لجهة تمجيد الهامش، والاشتباك مع شخصيات وجدت نفسها في أتون الحرب، تتلقى صفعاتها، من دون أن تنخرط بها، لكنها هي من دفع الفاتورة الباهظة، إذ عصفت بمشاريعها رياح المتغيّرات، فخضعت مرغمة لضغوط قيم وافدة لا تشبهها. أربعة أصدقاء درسوا الموسيقى والغناء أكاديمياً، لكن مفرزات الحرب لفظتهم خارجاً. سوف يضطر عازف الكونترباص (فادي صبيح) للعمل في ملهى ليلي بمساعدة أحد أصدقائه (كرم الشعراني)، فيما ستعمل زوجته (رنا شميس) في مخزن لبيع الثياب، وستجمعه المصادفة بزميل قديم كان يظن بأنه توفي، وفقاً لشائعات تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي، فيخبره الصديق بأنه انتهى إلى بسطة لبيع الخضر في حارة شعبية، وسيلتقي بزميلة أخرى (أمل عرفة)، كانت حبيبته قبلاً، وقد هجرت آلة الكمان لتعمل سائقة تاكسي للنساء، بعد زواج فاشل من رجل ثري. هكذا سينضم صديقه للعمل معه طبّالاً في الملهى بعد احتجاج زبائن الملهى على عزفه المنفرد للكونترباص، فقد بدت هذه الآلة الضخمة في غير مكانها، كما لا يمكنها أن تجاور الطبل فوق منصّة واحدة، إلا بفعل ذائقة منحطّة، فرضت مزاجها على المناخ العام. على الأرجح، فإن مقولة الشريط الأساسية تكمن هنا، في هذا الزواج القسري بين الآلتين، ككشف حساب نهائي لفوضى الحرب التي زعزعت المقاييس الصحيحة، وغيّبت النوتة الأصلية لمصلحة الارتجالات الشعبوية، وضغط الحاجة، وتفاهة اللحظة، على عكس مقولة نيتشه «إنّ الحياة بدون موسيقى خطأ فادح، عزلة ومنفى».
شخصيات وجدت نفسها في أتون الحرب، تتلقى صفعاتها، من دون أن تنخرط فيها


يعيش هؤلاء عزلتهم ومنفاهم، من دون أن يتخلّوا عن مبادئهم وقيمهم القديمة. هكذا يجد عازف الكونترباص «طلال السكّري» نفسه أمام امتحانٍ إنساني صعب، حين يلفته- أثناء دخوله تواليت المقهى- صوت عجوز يتألم، لعدم قدرته على التبوّل، فلا يتردّد في إنقاذه ونقله إلى المستشفى مورّطاً نفسه ومن معه في إجراء عملية جراحية له، ودفع كلفة علاجه، ومن ثم رعايته مباشرة، رغم تذمّر زوجته وابنه المراهق، لكن الزوجة التي اعتادت طيشه في مواقف مشابهة تضطر إلى مجاراته في العناية بمصير العجوز. قد تبدو هذه المبادرة درساً في الإيثار، وضرباً من اللامعقول في مثل هذه الظروف. لكن عبد اللطيف عبد الحميد أراد أن يبثّ رسالة واضحة: إذا لم يكن طلال السكّري موجوداً في الواقع، ينبغي أن نوجده في الشاشة، ونوقظ ما هو نائم في دواخلنا لمواجهة اللامبالاة حيال أوجاع الآخرين وآلامهم. لكن هل كان عليه أن يكمل الحكاية بورطة أكبر؟ سيعود العجوز (جرجس بشارة) إلى بيته المهدّم لاسترجاع مصوغات ونقود كان خبأها داخل جدار، قبل هروبه من القصف الذي طال الحيّ، فتخطفه عصابة تكفيرية وتطلب فديّة من العازف أو حارس الأمل، فيضطر لاستدانة المبلغ من صديقته سائقة التاكسي التي تتحمّس لمساعدته مدفوعة بحبها القديم له، فيما يكون العجوز قد تخلّص من مختطفيه واستعاد ثروته المخبوءة، ليهديها أخيراً للعازف كنوعٍ من ردّ الجميل. بدا هذا الخط فائضاً عن حاجة السيناريو، ومغلّفاً ببعد قدري، وبميلودراما أثقلت الشريط بمسوغات إضافية لا يحتاجها بمثل هذه الجرعة الروحية من البسالة والفضيلة.