وصل إلى بيروت المخرج اللبناني الأميركي الشاب جاد ياسر عنداري قادماً من لوس أنجليس لتصوير فيلمه الثاني الذي سيكون وثائقياً يحكي فيه قصة تدور في بزبدين قرية والدته في جبل لبنان، ومعها حكاية تقاليد وعائلات وإرث كما تراث العديد من قرى جبل لبنان الدرزية. جاد من صناع السينما ذوي الموهبة الفطرية وهو من مواليد عام 1986 في بلدة فالوغا في جبل لبنان أيضاً، ولكنه نشأ وترعرع في مدينة لوس انجليس. درس التنمية الدولية مع تركيز على المواصلات في الجامعة في لوس أنجليس. وفي عام 2010 التحق لمدة ثلاث سنوات ونصف بالجيش الأميركي حيث قضى معظم خدمته العسكرية في العراق. بعد عودته إلى الولايات المتحدة، التحق بـ «جامعة نيويورك» حيث حصل على شهادة الماجستير في التخطيط المدني، ليعود بعدها إلى لوس أنجليس حيث بدأ يعمل في دائرة التخطيط المدني لمدينة لوس أنجليس. في الوقت عينه، وجد نفسه مهتماً بعالم السينما، فصوّر برفقة عدد من أصدقائه أفلاماً تسجيلية قصيرة، ليعود بعدها ويتعاون مع شاب لبناني آخر من لوس أنجليس اسمه بوبي يوسف. هكذا، كتبا معاً سيناريو يتناول حياة جندي أميركي يعود من العراق، ويجد نفسه مسكوناً بحرب وببلد غادره، لكنه ظلّ يستوطن وجدانه وذاكرته. كانت فكرة الفيلم أولاً تتمحور حول نهب المتحف الوطني العراقي في بغداد في نيسان (أبريل) 2003، لكن الإمكانيات المادية الضئيلة جعلت تصوير عمل مماثل شبه مستحيل.
مشهد من فيلم «بيدق» (2017)

مع إعادة الكتابة، تطورت القصة إلى موضوع آخر، وتمّت الاستعانة بمواد مصورة من أرشيف الحرب العراقية، وصار موضوع الفيلم أمراً في غاية الأهمية من وجهة نظر إنسانية، ألا وهو أثر الحروب على الجنود الذين يقاتلون فيها، بخاصة حين تكون حروباً عدوانية ليس هدفها حماية حدود الوطن بقدر ما هو احتلال بلاد لم يسمع بها معظم الجنود الذين يجدون أنفسهم في مواقف خطرة يتساقطون فيها في معارك لا يعلمون لها سبباً. حروب لا يدركون لها غاية و«أعداء» لا يعرفون عنهم شيئاً. كثير من الجنود يقتل أو يسقط جريحاً، وكثيرون يعودون وقد سُلبت إنسانيتهم وقدرتهم على العودة إلى حياة طبيعية في مجتمعهم ووطنهم الأم. هكذا تمكّن جاد من أن يقدّم فيلماً قصيراً بعنوان «بيدق» (Pawn ـــــ 2017) مدته حوالى سبع دقائق، لكنّه يتطرق إلى مسألة هامة جداً ألا وهي الحالة النفسية والعقلية للجندي الأميركي العائد إلى بلاده بعد حرب ظالمة على بلد صغير وضعيف كان يحيا تحت حصار أميركي قاس استمر عشر سنوات قبل الغزو العسكري عام 2003. لعلّه أول شريط أميركي منذ بداية الحرب الأميركية على العراق يتطرق إلى وضع الجنود الأميركيين بعد عودتهم إلى بلادهم. ربما ما زال الوقت مبكراً كي تنتج هوليوود أفلاماً من هذا النوع رغم أنّ كثيراً من الأفلام صنعت عن غزو العراق وخفاياها، لكن السينما الأميركية لم تتطرق بعد إلى الجوانب الإنسانية لتلك الحرب كما حصل مع حرب فيتنام التي أعطت عدداً من أقوى وأهم أفلام السينما الأميركية مثل «صائد الغزلان» (1978) لمايكل تشيمينو، وفيلم «القيامة الآن» (1979) لفرانسيس فورد كوبولا، وفيلم Full Metal Jacket لستانلي كوبريك الصادر عام 1987. لعل «بيدق» جاد عنداري يقترب من فيلم «صائد الغزلان» لمايكل تشيمينو في تصوير أثر الحرب على الحالة العقلية والنفسية للجندي الأميركي. في كثير من الحالات، ينهي حياته بنفسه أو ينتهي به الأمر مشرّداً في شوارع المدن الأميركية وغير قادر على الاستمرار في حياته كما كانت قبل الحرب التي شارك فيها تحت شعارات «الحرية والديموقراطية لشعوب مضطهدة» أو ضد شعوب معادية للولايات المتحدة. لكن في الحقيقة، يكتشف مأساة أنّه يحارب شعوباً لا تكنّ له أو لبلده أيّ ضغينة، وأنّ مَن أرسله ليقتل شعوباً فقيرة وضعيفة لا يعبأ لا بالحرية ولا بالديموقراطية، ولا همّ له إلا نهب ثروات تلك البلاد وخيراتها لكي ينعم بها أثرياء أميركا، وشركاتها العملاقة التي لا ترى في جنود جيوشها ولا في شعوب العالم الفقيرة إلا بيادق صغيرة لا بدّ من التضحية بها ثمناً للثروة الفاحشة والقوة اللامتناهية التي تأتي مع أهمّ ركائز الإمبراطورية الأميركية كما كل إمبراطورية: المال والسلاح. ومع هذين العنصرين، لا بدّ من عنصر ثالث يوازيهما قوة وأهمية ألا وهو الإعلام وامتلاك الرأي العام كي تظل كل حروب أميركا الوحشية والقاسية تبدو نظيفة وأخلاقية في عيون الشعب الأميركي. شعب يرسل أبناءه في جيوش جبارة يتوهم أنّها تحمل الخير والسعادة والحرية للناس، فتأتي النتيجة لا كما يصورها الإعلام الأميركي زاهيةً براقةً، بل حزينة سوداوية قاتلة لكل من يشارك فيها قاتلاً كان أم قتيلاً. جاد عنداري مخرج كبير الموهبة وقد صوّر فيلماً حقيقياً وصادقاً، لأنّه كان هناك في قلب المعركة، في العراق. ولهذا فإنّ فيلمه ـــ رغم دقائقه القليلة ـــ نجح في تصوير جحيم الحرب الذي لا ينتهي. بل لعله يبدأ في أقسى مراحله بعد انتهاء الحرب وعودة الجندي إلى بيته ووطنه. ولأنّ جاد قد شارك في حرب أدرك ماهيتها منذ البداية، فإنّه تجنّب أن يؤذي أحداً خلال سنوات خدمته. ولعل هذا ما أعطى فيلمه نهاية فيها أمل وخير وثقة بالناس والدنيا، وبإمكانية أن تعود الحياة إلى سابق عهدها ولو عبر سبل لا تخطر في بال أي طبيب نفسي.
فيلمه الثاني وثائقي يحكي قصة تدور في بزبدين قرية والدته في جبل لبنان


فيلم «بيدق» (2017) يجلب حرب العراق إلى نيويورك حيث يجمع بين جندي أميركي سابق أدى دوره الممثل الأميركي آدم كي يدخل مصادفة إلى نادي شطرنج صاحبه عراقي يؤدّي دوره الكاتب والناشر العراقي صموئيل شمعون ‫(صاحب رواية ‫«‬عراقي في باريس‫»‬ ومجلة «بانيبال» للأدب العربي ومجلة «كيكا» للأدب العالمي ـ يعمل حالياً على رواية عن أيامه في بيروت خلال الحرب الأهلية‫)‬ في باكورته التمثيلية. يلتقي طرفا الحرب على رقعة الشطرنج حيث تنتصر إنسانية الضحية على بندقية الجلاد الذي ما انتهى من قتل ضحيته حتى صوّب مسدسه نحو رأسه. لكن كما هي حال معظم شعوب الدول الفقيرة والمضطهدة، فإن إنسانيتها هي سلاحها الأمضى وروح التسامح لديها هي ما يجعلها تستمر تحت وقع صواريخ الاحتلال، فتنهض بعد رحيل جيوش المحتل. فيلم «بيدق» قصير لكنه جميل ومعبر بشكل أكبر وأقوى من دقائقه السبع وأكبر من ميزانيته التي لم تتجاوز سبعة آلاف دولار. ولعل هذا ما أدركه محمكو «مهرجان جوائز لوس أنجليس للسينما» حين منحوا فيلم «بيدق» جائزة أفضل فيلم لمخرج جديد لعام 2017. كما كان «بيدق» من أبرز الأفلام المشاركة في «مهرجان طوكيو للأفلام القصيرة» عام 2018.
ساعد في نجاح الفيلم الأداء المحكم لبطليه صموئيل شمعون وادم كي.



كما أن المونتاج المحترف لاستير شوبينسكي والموسيقى التصويرية الرائعة للموسيقي اللبناني الأميركي أمين المنجد، استطاعت نقل روح الفيلم وحمل عذابات أبطاله التي تستحوذ على المشاهد لزمن طويل بعد انتهاء الفيلم وحكاية شخوصه، «بيدق» (تصوير شاي دينغاري ـ والصوت بإدارة سيباستيان ابوليناريو) فيلم قصير وجميل وعميق ويستحق كل الاهتمام لأنه حتى اللحظة من بين الأفلام القليلة التي تطرقت للغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وما تركه ذلك الغزو من خراب وتشويه في نفوس وعقول الجنود والمجتمع الأميركي. هؤلاء ما زلوا وسيظلون يحيون ويعانون من أزمة أخلاقية سببتها حرب بدأت بكذبة واستمرت بكذبة وستنتهي كما ينتهي كل احتلال ككذبة يعود بها شعب العراق إلى سابق حياته وعهده، ويظل جيش وشعب الاحتلال يحيا في عذاب وخجل وعقدة ذنب لا يشفيه منها إلا طلقة رصاص أو حدّ سيف، فـ «من يأخذ السيف بالسيف يؤخذ». نتشوق إلى جديد جاد عنداري عن بزبدين قرية أمه، وهو قد انتهى من التصوير قبل أيام (تولى إدارة التصوير رمزي هبري والصوت رالف عطالله)، وسيتم إنجاز العمل على الفيلم في بيروت لأنّ «لبنان مليء بالمواهب في كافة المجالات السينمائية وما ينقص هو الفرص» على حدّ تعبير عنداري. ولعل فيلمه الجديد هو بداية لإعادة اكتشاف طاقات لبنان ومواهبه عبر العمل معها وليس الكلام عنها وامتداحها. حتى لو أنّ فيلمه الثاني سيكون قصيراً أيضاً، لكن أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام.