قيس الزبيدي شخصية سينمائية، لها أهميتها الكبيرة، بما حقّقه أو ساهم بتحقيقه من أفلام، في السينما العربية، بالإضافة إلى دوره الاستثنائي في تأسيس وتطوير السينما التسجيلية، سواء في الأفلام التي أخرجها، أو تلك التي ساهم في إنجازها كـ «مونتير» صاحب رؤية إبداعية، أو كمصوّر ذي نزعة جمالية خاصة، وخبرة تقنية كثيفة. الكتابة عنه هنا، وعلاقة الصداقة والعمل التي تربطنا، والتي تكاد أن تبلغ الخمسين عاماً، ومحاولة الإلمام بهذا التنوّع من القدرات التي يتصف بها، أو الكشف عن كل ما قام ويقوم به حتى اليوم في المجال السينمائي، هو بالنسبة لي «مرآة» لتجربتي السينمائية، وعلاقة لها قيمة تاريخية خاصة.
■ ■ ■

وقع قيس الزبيدي منذ مطلع صباه في «براثن المونتاج» السينمائي، واتخذه هدفاً لتخصصه ودراسته الطويلة، ثمّ عاشه لزمن طويل كمهنة، فأصبح المونتاج عبر هذه الممارسة، بما يولده من تحديات عملية مصدر قراءاته في السينما والأدب. كأن المونتاج هو الأساس في تشكيل وعيه ورؤيته الذاتية والموضوعية، ليس للسينما فقط، بل للحياة والعيش. والمونتاج الذي أقصده هنا هو الفكرة التي تغدو هي الحياة.
■ ■ ■

كأن زمن العتمة هو أيضاً جزء من «الرشز» أو المادة المصوّرة لهذه العلاقة، ففي عتمتها ليس هناك أي صور، وفي المونتاج ترتمي العتمة في سلة المهملات. مشاهد هذه العلاقة- الفيلم، الباقية في ذاكرتي، هي ما نتبادله من حوار، وما نفكّر به من مشاريع، ما نكتبه، ما نشاهده، أو ما نصنعه من أفلام. لعل أطول هذه المشاهد، هو تشاركنا معاً في الدفاع عن السينما التي نحب.
■ ■ ■

تُرى هل كان العيش طويلاً داخل السينما، وفي فضاء المونتاج له دور في أن يتسرّب المونتاج إلى التكوين الذهني للإنسان، وإلى دهاليز روحه وعالمه الوجداني؟

ترويض الوثيقة

فيصل درّاج
يعاند قيس الزبيدي، في أفلامه الفلسطينية، المادة الوثائقية، ويروّضها معاً: يعاند محدوديتها، وهو يرفض الخضوع إلى المادة التي وجدها، ويتمرّد على سلطتها، حين تملي عليه ما أملته على غيره. ففي المادة الوثائقية الفلسطينية، المصاغة من التهجير والسجون وبؤس المخيّمات، ما يقيّد حركة الفنان ويحاصر تصوّره، كما لو كان المأساوي الفلسطيني يسيطر على غيره، ولا يُسيْطر عليه. غير أن قيس الزبيدي، الذي يعيد صياغة المأساوي، يسيطر على المادة الضاغطة، الذاتية المستقلة والمنظور الفني. لذا فإنه يقدّم المادة الوثائقية، كما يراها، حيزاً للإيحاء والإيضاح والمساءلة، قبل أن تكون شريطاً من الصور المتواترة. هكذا يعلن، وهو يخلق فيلماً متعدد العناصر، عن مرونة الحياة وقلق الفنان وتمرّد العمل الفني على الاختصار والأفكار القاطعة. تتضمن سينماه في موضوعها الفلسطيني ثلاثة أسئلة على الأقل: كيف تبني خطاباً سياسياً متسقاً من مجموعة الصور المتعاقبة؟ وكيف تنشئ خطاباً لا يصادر فيه الانفعالي العقلاني، ولا تطغى فيه الصرخة على الصورة؟ وكيف تجعل من المتفرّج علاقة داخلية في الفيلم لا علاقة سلبية خارجية؟

* مقتطفات من كتاب «قيس الزبيدي: سينما تبحث عن وطن» بتوقيع محمد ملص، سيصدر قريباً عن «دار نوفل» في بيروت