تتواصل عروض فيلم «الرحلة» (2017) للمخرج العراقي محمد الدراجي (1978) في «متروبوليس أمبير صوفيل». رحلة في ذهن سارة (زهراء غندور) الانتحارية، خلال طريقها لتنفيذ عمليتها في محطة القطارات في بغداد عام 2006. محطة عادت الحياة إليها بعد توقّف، لتشكل ملتقى لجميع شرائح النسيج العراقي. نعيش يوماً كاملاً في عراق يدخل عامه الثالث من الاحتلال الأميركي، ويدخل معه في موجة من الهجمات الانتحارية والتفجيرات، أصبحت حدثاً متوقعاً في أيّ لحظة لدى العراقيين، وتركت ما تركته من آثار في حياة الناس. سارة فتاة عراقيّة، اختير لها المحطة ومن فيها هدفاً لهجوم جديد. منذ اللحظة الأولى لدخولها المحطة، تلج عالم ضحاياها المحتملين وتعيش معهم لحظات قد تكون الأخيرة في حياتها وحياتهم. تؤجل تنفيذ خطتها أكثر من مرة بسبب ظرف أو مصادفة، ما يمكّنها من الاقتراب من الضحايا والتعرّف إليهم عن قرب، إلى درجة الالتصاق بهم وربط مصيرها بما يحدث لهم، على عكس ما كانت تتوقّع حين وطئت المحطة، ترتدي الحزام الناسف، وتمسك هي بمصير الجميع.
في لحظات الانتظار أو البحث عن اللحظة المناسبة لتنفيذ هدفها، ستشاهد وتسمع قصص الناس حولها. قصص عادية، تبسط أمامنا جوانب من المجتمع العراقي. حكاياتهم ستلاحق سارة في أحداث الفيلم، بالتزامن مع مفاجآت ليست وليدة الصدف، لأنّ المخرج أراد ربط مصير الناس وحكاياتهم ببعضهم البعض. ليس موضوع الهجمات الانتحارية، أو أفكار الانتحاريين أو كلّ ما يدور حول هذا من جدل حول الفعل أو طبيعة الفاعل – المجرم أو الضحيّة – هو المهمّ في «الرحلة». متوقّع أن تتردّد سارة أمام مشاهد إنسانية، ومتوقّع أن تكون لها حكايتها وتستعيد الجانب الإنساني فيها أو تستدعيه حين تحتاج له، خاصّة مع ضعف خطابها وحجّتها في مواجهة سلام، الشاب الذي يخترق مسارها ويغيّر وجهته. المهمّ في العمل، أنّه يرصد التحوّل الجذري في العراق الخارج من عهدٍ ظالم إلى عهدٍ مظلم. لا يزال العراقيون يعيشون تبعات زمن صدّام حسين، لكنهم خرجوا من حكمه ليجدوا أنفسهم في عراق مدمّر تحت وطأة الاحتلال والتفجيرات. تحوّل ظاهر في حزن الناس بسبب ما تعرّضوا له، وظاهر في قسوة الأطفال الذين شرّدتهم الأحداث. كلّ هذا تتابعه كاميرا الدراجي برويّة، بعيني سارة.
يصوّر الأميركيين كمحررين من العادات والمفاهيم الشرقية الظالمة!


أحكم صاحب «ابن بابل» حركة الكاميرا. نراها ترافق سارّة بتصميم وتوتّر في طريقها إلى المحطة أو في ما تواجهه من مفاجآت تفرض في كلّ مرة تعديلاً في مسار مخطّطها، ثمّ تهدأ معها حين تتأملّ حكايات الناس ووجوههم في محطة بغداد. ترافق هذه التأملات موسيقى حيّة صادرة من المحطة، تعزفها فرقة عراقية، تنتظر في المحطة.
في خضم زحمة المحطة التي تعمل بشكل طبيعي أثناء تصوير الفيلم – ما يعطي فكرة عن ظروف التصوير الصعبة التي واجهها فريق العمل – تبدأ قصّة تلو الأخرى في الظهور.
أصرّ المخرج على إظهار الوجه الإنساني أيضاً في الضابط الأميركي الذي يمثّل سلطة الاحتلال. بعد أن نتعرّف إلى شخصيته القاسية، نراه يتحوّل فجأة ويشفق على امرأة أوقفها بسبب شكوك أمنية. يطلق سراحها لأن المجتمع العراقي ظلمها بعد إنجابها من دون زواج. يبرّر المخرج هذا المشهد، خلال النقاش بعد عرض الافتتاح، بقصّة شبيهة واجهته عند توقيفه من قبل جنود أميركيين وأفرج عنه. لكن سبب الإفراج عن المرأة في سياق الفيلم، يحوّل المحتلّ إلى محرّر من العادات والمفاهيم الشرقية الظالمة.
أفلتت من الدراجي بعض المشاهد نحو الميلودراما. بعض الصور تذكّر بالحملات الإعلانية العراقية لمواجهة الإرهاب والدعوة إلى وحدة العراقيين. لكنه نجح في رسم سيناريو مليء بالأحداث والمفاجآت في يوم واحد وضمن إطار جغرافي واحد. نجح أيضاً في إظهار الأداء القويّ والمقنع للممثلين، بخاصّة الأطفال. «الرحلة» وبطلته زهراء غندور، حازا أكثر من جائزة في مهرجانات عربية، كـ «مهرجان السينما العربية» في باريس. إلى جانب زهراء غندور، يلعب أمير جبارة دور الشاب سلام، إلى جانب الطفلين هدى وحيدر علي.
بعد عروضه في المهرجانات وفي العراق الذي غابت عن صالاته الأعمال السينمائية المحلية لفترة، انطلقت عروض «الرحلة» في لبنان وهو سيمثّل العراق في المنافسة على جوائز الأوسكار هذا العام. هو يملك حظوظاً، بسبب الحبكة وتنفيذها من جهة وبسبب الخطاب المعتدل الذي يروّج له أيضاً.

«الرحلة»: حتى 17 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/204080