باريس | للعام الـ 12 على التوالي، ينتقل برنامج «أسبوع النقاد» من الكروازيت ليحط في بيروت. هذه المبادرة التي بادت تقليداً سنوياً، تشكل نافذة فريدة لاستشراف جديد السينما العالمية. منذ إطلاق «أسبوع النقاد» عام 1962، أريد لهذه التظاهرة التي تقتصر على الأفلام التي تعد الأعمال الأولى أو الثانية لمخرجيها، أن تكون بمثابة البارومتر الذي يرصد التوجهات الجديدة في عالم الفن السابع. وعلى ممر السنين والعقود تكرست مكانة هذه التظاهرة بوصفها مختبراً لاكتشاف المواهب والتجارب السينمائية الأكثر تجديداً وتميزاً. الأفلام المشاركة هذه السنة في «أسبوع النقاد»، كانت التيمة الغالبة فيها هي الحب المستحيل. تيمة رُصدت من زاويا ومقاربات فكرية وجمالية متعددة. مما جعل من «أسبوع النقاد» هذا موسماً خصباً للحب بكل أشكاله وألوانه. ولعل أكثر تلك الأشكال غرابة وإبهاراً هي تلك العلاقة غير المتوقعة التي تنشأ بين شرطية مثلية ونجم كرة قدم صاحب نزعة ذكوريّة مغالية، في الفيلم البرتغالي Diamantino لغابريال أبرانتس ودانيال شميدت الذي حاز «الجائزة الكبرى» لأسبوع النقاد هذه السنة.
خلافاً لما قد يتبادر الى الأذهان، فإن علاقة الحب الاشكالية التي تنشأ تدريجاً بين الشرطية المثلية ولاعب الكرة، الذي يشبه مظهره في بداية الفيلم النجم كريستيانو رونالدو، لم تأت نتاج تخلي الشرطية عن توجهاتها المثلية. بل إن النجم الكروي ذا المواصفات الذكورية الفاقعة هو الذي يتحول تدريجاً الى أنثى، بفعل مؤامرة انتقامية شيطانية تلجأ إليها شقيقتاه التوأم الفاشيتان، من خلال حقنه سراً بهرمونات أنثوية، انتقاماً من تعاطفه مع المهاجرين السريين!
يعرض فيلم «يوم عرس» للجزائري إلياس بلقدار

الفيلم الفرنسي «متوحش» لكميل فيدال – ناكيه لا يقل، بدوره، غرابة وإبهاراً. من خلال بورتريه ساحر وقاس لشاب مثلي يمارس الدعارة في غابة بولوني، غرب باريس، نجح المخرج الشاب في كسر الصورة النمطية والأخلاقوية المتداولة في السينما والاعلام عن الدعارة المثلية. فالشاب المثلي الذي يبيع جسده هنا لا يفعل ذلك مضطراً، ولم يكن ضحية اعتداء جنسي في صباه، ولا هو وقع في شرك الدعارة بتأثير عصابة من عصابات الرقيق الأبيض، بل يقوم بذلك طوعاً، بحثاً عن الملذات والتجارب المغايرة وخروجاً عن المألوف. نال بطل الفيلم، فيليكس ماريتو، «جائزة مؤسسة لويس روديرر لأفضل اكتشاف»، التي تعد ثاني أهم الجوائز في «أسبوع النقاد». لكن بالرغم من الحفاوة النقدية التي حظي بها، استُبعد الشريط من برنامج العروض البيروتية لـ «أسبوع النقاد» لأنه «لم يكن لينال إجازة عرض (في لبنان) بنسخته الكاملة».
تيمة الحب المستحيل اتخذت شكلاً اكثر كلاسيكية في الفيلم الهندي Sir لروهينا جيرا الذي نال «جائزة مؤسسة غان». ميزة الفيلم أنه استطاع أن يطرق، من منظور جمالي مغاير تماماً للنزعة الميلودرامية السائدة في السينما الهندية، تيمة تشكل أحد المواضيع الأثيرة للسينما البوليودية: علاقة حب صامتة وملتبسة تنشأ بين الخادمة الفقيرة راتنا والشاب أشوين، سليل العائلة الثرية التي تشتغل عندها الخادمة.
أما الفيلم الذي نال رابع جوائز التظاهرة، وهي جائزة «جمعية مؤلفي وملحني الفنون الدارمية»، فقد اتخذت فيه تيمة الحب المستحيل طابعاً مغايراً. في «امرأة في حرب»، رسم المخرج الإيسلندي بنيدكت إرلنغسون بورتريها مؤثراً يعكس لوعة هالا، الخمسينية مغرمة بالطبيعة، حيال الكارثة البيئية التي تتسبب فيها النفايات السامة التي يفرزها مصنع تابع لشركة عملاقة في مجال صناعة الألمينيوم. وفي ظل استحالة التصدي للشركة العملاقة بالوسائل القانونية، تلجأ هالا الى عمليات تخريب دورية لآليات المصنع لتعطيل عمله، ضمن حرب استنزاف تلجأ خلالها إلى التخفي في غابة قريبة من المصنع، للإفلات من مطاردات رجال أمن المصنع.
في فئة الأفلام القصيرة، كافأ «أسبوع النقاد» هذه السنة فيلمين. الأول هو العمل العربي الوحيد المشارك في هذه الدورة، وهو «يوم عرس» للجزائري إلياس بلقدار (نال «جائزة كانال بلوس») أما الثاني فهو «هيكتور مالو - آخر أيام السنة» لليونانية جاكلين لانتزو (أحرز «جائزة ليكا سيني لافضل اكتشاف»). في «يوم عرس» (يُعرض يوم 25 تموز)، يقتفي إلياس بلقدار آثار شاب محتال يعتاش من السرقات الصغيرة، تم نفيه من فرنسا بعد خروجه من السجن الى الموطن الأصلي لوالديه في الجزائر. هناك، يعود الى عمليات الاحتيال والسرقات الصغيرة، لكنه يكتشف شيئاً فشيئاً أنه غادر السجن بمعناه الضيق في فرنسا، ليقع في السجن الأوسع لبيئة اجتماعية لا يستطيع الاندماج فيها.
أما «آخر أيام السنة» (يُعرض يوم 31 تموز)، فيرافق رحلة تيه بطلته صوفيا التي تنطلق بسيارتها لعبور الصحراء، مطلقة العنان لشغفها بجمال الطبيعة. مع غروب شمس اليوم الاخير من السنة، تقف لتتأمل جمال اطلالة القمر. وإذا بها تكتشف أنّ تلك الرحلة الطويلة، الشاقة والشيقة في آن، لم تستطع أن تنسيها الحقيقة الفاجعة المتمثّلة في كونها مصابة بمرض لا يمكن الشفاء منه!