عباس النوري
لا يمكن أن يغض المرء بصره عن حساسية هذا الزمن، وكم صار حرجاً الوقت الذي نمر فيه، والكلام لا بد أن يكون حرجاً ومشابهاً للوقت. المؤكد أنّه ليس هناك حرج في طلب الحرية لكل مبدع. فؤاد حميرة رجل وفنان لا يمكن أن نضحّي به أو نوافق على خسارته. وأنا هنا في موقع الدفاع المطلق عنه، وهذا أمر يجب أن ينسجم مع ما قدّمه من عطاء وفن. كما قامت الدراما السورية على مفردات بسيطة من تجارب شخصية إبداعية وربما أكون واحداً من أكثر الناس تواضعاً في المساهمة بها، إلا أنّ حميرة كانت له تجربة وحضور مختلفان على أكثر من صعيد. وكما طالب بالحرية للجميع في أعماله وحياته الإنسانية، فإنّنا نطالب له بالحرية، ونقولها صراحة إنّنا ضد اعتقال أي مبدع.

المسألة في بلدنا مرتبطة بغياب الرعاية للفن والفنانين، والمشهد الثقافي مخترق أصلاً. التعبير عنه يجب أن يكون بمنتهى التوازن في هذا الوقت غير المتوازن، لكنّنا بتنا نخسر طاقات سورية على جميع المستويات، ليس من خلال إلقاء القبض على الأشخاص بالطريقة المعروفة، بل يمكن أن يكون إلقاء القبض بأشكال عدة فكل مهجر أو مغترب أو لاجئ أو مسافر قسراً، أو منفي يمكن أن يكون معتقلاً.

سيف الدين السبيعي

لم يسبق لي أن تعاطيت مع نص محكم كالنص الذي صنعه فؤاد حميرة في «الحصرم الشامي»، وهو المسلسل الذي اشتغلنا عليه طيلة أربعة أعوام. قدمنا من خلاله حكاية توثيقية عن تاريخ دمشق، المدينة التي ساهمت بعض الأعمال الدرامية في تشويه تاريخها الخصب. على مدار هذه السنوات، عرفت كيف يتعاطى الرجل مع الورق، ويصنع حكاية درامية حقيقية حتى ولو أخذت على عاتقها حيز التوثيق، ثم كيف يحترم مساحة المخرج ويترك له الفرصة المطلقة من خلال مادته الخام ليعيد صياغة الورق وكتابته لكن بلغة الصورة. ربما اختلف مع فؤاد في الكثير من القضايا، لكن لا يمكنني أن أشيح بوجهي عن حقيقة أنّ الحرية تليق به وبأمثاله، خصوصاً أنني أعرف مدى نقائه ورغبته بأن يكون لدينا وطن جميل فيه كل مقومات الانسانية واحترام المبدعين.
أتمنى أن تكون تجربة فؤاد عابرة، ويعود لعائلته في أسرع وقت، على أمل أن نتسلح نحن السوريين الذين لم يكن لدينا أي دور في ازدياد العنف بهذه الوتيرة المتسارعة في عاصمة الأمويين، بجرعات مفرطة من الحب، وهو كل ما نملكه في مواجهة تيار جارف لا يرحم من عنف أعمى ودموية وحشية.

عدنان العودة

الحديث عن فؤاد حميرة حديث عن الفقر، عن الحجر الأسود، وابن المرابع حيث التقيته للمرّة الأولى. ابن المرابع الذي صار غزالا في غابة الذئاب. لكنّ فؤاد ليس غزالاً في غابة، بل مصارع في حلبة ثيران. فؤاد وحصرمه الشامي، وبصمته في تاريخ النص الدرامي السوري، لم يكن ليُرِد لأطفالنا أن يضرسوا. فؤاد المشاكس، جاري في قدسيا ونديمي على كأس عرق الريّان. فؤاد الذي يعلو على الطائفية، ويخلص لسوريّته، ويقبل شتيمة من يخالفه الرأي، إنما يفعل ذلك ليتوافق مع جهات وطنه. فؤاد والتهديدات على باب بيته لأنه قال رأياً ليس سوى سجال يومي في أحاديثه وعلى الفايسبوك. فؤاد ليس قاتلاً، ليوضع القيد في يده. بل حر، والحرّ لا يليق به إلا طوق ياسمين.
فؤاد نقطة لقاء، على ما نريده كسوريين، لا مفترق طرق، لمن يريدون خراب هذي البلاد الطيبة. فؤاد صوت سلمي. لا رصاصة ولا برميل بارود. هناك في غيبته، سيشاكسهم. أعرف لسانه الحاد، ومزاجه النزق، ودفاعه عن رأيه لغةً حتى البرهان الأخير. فؤاد وجه لا يمحى وفي تغييبه قسراً إغلاقٌ لباب من أبواب دمشق، إن لم أقل قتلاً لفؤاد سوريا.

قيس الشيخ نجيب

كنت محظوطاً عندما اشتغلت في «الحصرم الشامي» لفؤاد حميرة. تعرّفت إليه ممثلاً في العمل ذاته. من خلال هذه التجربة، تعرّفت إلى كاتب جريء تناول حقبة من التاريخ الدمشقي بطريقة مختلفة عن الطرق السياحية التي كانت تقدم فيها أعمال البيئة الشامية لأنه تناول بيئة عاصمة الأمويين بعمق حقيقي ومختلف. إلى جانب ذلك، كانت لوالدي الراحل المخرج محمد الشيخ نجيب تجربة خاصة مع فؤاد عندما أخرج له مسلسل «ممرات ضيقة» الذي تناول جوانب مظلمة من مجتمعنا لم يسبق أن أضاءتها الدراما السورية قبلاً. إذا استعرضنا تاريخ الرجل بدءاً من مسلسل «رجال تحت الطربوش»، نجد أنفسنا أمام كاتب حقيقي ومبدع وحرّ، إذ يصعب غالباً الغوص في أعماق المجتمع وتناول القضايا الهامة بمجافاة الأساليب السياحية. لكل ذلك، أشعر أنّنا كسوريين في أمس الحاجة إلى مبدعين وفنانين مثله يشكّلون سمة المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّنا نمر بواقع أسود. لذا، لا بد من كسر القيود عن معصم فؤاد كما سبق له أن كسر قيوداً كثيرة في فنه. الحرية للمبدع والحر فؤاد حميرة، ولكلّ معتقلي الرأي والرحمة لشهداء سوريا الذين نبكيهم في كل دقيقة ولحظة.

زينة يازجي

لتتوقف هذه المهزلة. كيف تُعتقل الكلمة، ويُترك القاتل طليقاً؟ هل مقصود أن نخلي البلد من وطنييها بالاعتقال أو القتل أو التهجير والإرهاب؟ هذه هي المؤامرة الحقيقية التي تشل أبناء البلد عن بناء سوريا. نحن اليوم في أمس الحاجة لمنظري سوريا الذين يترفعون عن أي خندقة عسكرية وسياسية. عندما يصوّر فؤاد حميرة وكتّاب الدراما الجميلون واقعنا وأخطاءنا بل خطايانا، فإنّهم يضعون الحجر الأول لإصلاح الخلل. هؤلاء هم المدافعون الحقيقيون عن وجودنا أمام محاولات طمسنا. الفنانون الاصيلون قدموا إشارات إنذار كثيرة في أعمالهم الماضية، ولعبوا دوراً في تنبيه الشعب والقيادات من عواقب سوء إدارة البلد. يجب أن يبقوا أحراراً حتى يتسنى لهم مواصلة هذا الدور. بهذا المعنى، أفهم أنّهم الخطر الأول لكل من يريد لسوريا أن يستمر نزيفها. أصبحنا نخاف أن نفكر بينما نحن بأمس الحاجة لكل فكرة وكل صوت عاقل. المجرمون في الداخل والخارج يجبروننا على السكوت والهروب كأننا نحن المجرمون. يريدوننا أن ندافع عن القتل، وأنا أقول لهم إنّي لا أقبل القتل خياراً. إنّه الفشل في الخيارات وليس خياراً. لا تقتلوا الكلمة لأنّ التاريخ سيقاتلكم.



zoom | ريما فليحان

يحار المرء في ما يقوله في حضرة هذه الكوارث المتتالية، لكنّ اعتقال أصحاب الرأي الحر والكلمة الحق والمبدعين أمثال فؤاد حميرة، فإنّه إن عبّر عن شيء، إنّما عن همجية هذا النظام، ورغبته الحقيقية في الامتناع عن أي حلّ سياسي يخرج سوريا مما وصلت إليه. فؤاد حميرة قلم مبدع وكاتب موهوب وحرّ، انتقد الفساد والمخابرات مبكراً، ووجه صفعة قوية للنظام في عقر داره أيام الصمت. اعتقاله يأتي ضمن سياق خطة لاعتقال المبدعين كالمخرج زكي كورديللو وابنه مهيار، والسيناريست الشاب عدنان زراعي الذي مضى على اعتقاله أكثر من عام، والمخرج عمر الجباعي، ومهندس الفيديو عبد الرحمن ريا، والصحافيين مهند عمر وشذا المداد، ومازن درويش ورفاقه والقائمة تطول. هذه فرصة لأسأل عن مصير المعتقل هشام موصلي (مونتير الدراما) الذي خدم الدراما السورية لعشرات السنين.