القاهرة | بين مشهد وقوف صباح أمام سامية جمال في فيلم «الرجل الثاني» (1959) مع رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار، وهما تتنافسان على رجل واحد في محاولة لإثبات أنّ الجمال اللبناني يتفوق على المصري، ومشهد الهتاف ضدها في نقابة الموسيقيين، كان مشوار صباح الفني. «أخي، جاوز الظالمون المدى. جاءت صباح بعد نور الهدى».
هكذا هتف المطربون والمطربات من أعضاء نقابة الموسيقيين اعتراضاً على وصول المطربة اللبنانية الشابة في الأربعينات من القرن الماضي. ظلت الأصوات تتعالى داخل النقابة حتى تدخلت «الست» أم كلثوم. نقيبة الموسيقيين آنذاك قالت بحسم «مصر بلد الفن ومفتوحة للجميع، ولن نقف ضد أي موهبة». بعد هذا الموقف، سكتت كل الأصوات المعارضة لصعود الصوت الشاب إلى خشبة الحياة الفنية في مصر.
عند وصولها إلى القاهرة، كان في استقبال «الشحرورة» آسيا داغر التي أقنعتها، بأهمية المجيء إلى مصر. اصطحبت معها المخرج المبدع هنري بركات، لتبدأ النجمة الشابة أولى خطواتها في السينما المصرية.

أدخلتها آسيا إلى الوسط الصحافي والفني، بعدما أدركت أنّ تلك الفتاة النحيفة تملك موهبة حقيقية تحتاج فقط إلى من يطلقها ويقف بجوارها. وبالفعل، تبنت آسيا تلك الموهبة بكل ما تملك من قوة ومال وعلاقات، إلى درجة أنّها لم تترك صباح تعيش وحدها في بداية مجيئها إلى القاهرة. سكنت معها في منزلها في مصر الجديدة. وبرغم أنّ ملحنين كثراً وقتها كانوا يرون أنّ صوت صباح طفولي، إلا أنّ آسيا طمأنتها، وكذلك بركات، الذي قال لها «انت مهضومة حتى لو أن صوتك طفولي».
وبالفعل، وقّعت معها آسيا عقداً بثلاثة أفلام. كان الاتفاق يقضي بأن تتقاضى 150 جنيهاً مصرياً عن الفيلم الأول، على أن يزيد الأجر تدريجاً.
لا أحد ينسى مشهدها الخالد في فيلم «شارع الحب» مع عبد الحليم


وبدأت آسيا رحلة التحدي مع صباح عندما كلفت الملحن المبدع رياض السنباطي تدريبها فنياً، ووضع الألحان التي ستغنيها في فيلم «القلب له واحد» (1945). في تلك الفترة، اختفى اسم «جانيت الشحرورة»، وحل مكانه اسم «صباح». ويقال إنّ السنباطي لاقى صعوبة كبيرة في تطويع صوتها وتلقينها أصول الغناء، لأن صوتها الجبلي كان لا يزال معتاداً الأغنيات ذات الطابع الفولكلوري الخاص بلبنان وسوريا. في 1945، أدت صباح دورها الأول في «القلب له واحد». كانت هي «الاكتشاف» الغنائي اللبناني الذي أرادت به آسيا داغر أن تنافس نور الهدى، الاكتشاف اللبناني الغنائي الذي قدمه يوسف وهبي في فيلم «جوهرة»، فاكتسح به السينما المصرية عام 1943.
في هذا الوقت، كانت «هوليوود الشرق» تتعافى من أزمتها المالية بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت صناعة الترفيه مزدهرة، مما أدى إلى انتعاش سوق السينما.
أدركت آسيا ذلك، فعملت على الدفع بوجوه جديدة إلى الواجهة برغم أن تجربة صباح الأولى كانت متوسطة، حيث ظهرت بشكل فتاة نحيفة وقليلة الحيلة تبذل جهداً في الإمساك باللهجة المصرية. وبعد فترة من الارتباط بالمنتجة آسيا، استطاعت صباح أن تحصل علي مسكنها الخاص في الجيزة على نيل القاهرة. بدأت علاقتها تتسع بأعضاء من الجالية اللبنانية، كانوا ينظمون لها حفلات، وتحديداً في نادي ما يسمى وقتها «نادي الشرق».
في إحدى المرات، صادفت عبد الحليم حافظ الذي كان لا يزال هو أيضاً في بداية مشواره. طلبت منه حضور إحدى حفلاتها، وبدأت علاقتها بعبد الحليم، وفريد الأطرش الذي كان يسكن بجوارها، وأيضاً فايزة أحمد، التي جمعتها بها صداقة عمر، برغم أنّ الغيرة الفنية كانت قائمة. مع زيادة خبرتها الحياتية، نضجت صباح فنياً، على مستوى أدائها، وشكلها، وبدأت الأفلام تنهمر عليها، ومنها «بلبل أفندي»، «بيروت صفر 11»، «باريس والحب»، و«توبة وجوز مراتي»، «الحب في خطر»، و«خطف مراتي»، «الحب كده»، «الرباط المقدس»... وقفت أمام نجوم السينما المصرية، أنور وجدي، وفريد الأطرش، ومحمد فوزي، وفريد شوقي، وعماد حمدي، وعبد الحليم حافظ، ورشدي أباظة، ونجم الكوميديا إسماعيل ياسين. وإذا كانت صباح قد غنت تقريباً لكل ملحني مصر ما عدا سيد درويش، فإنها أيضاً وقفت أمام معظم نجوم تلك المرحلة في السينما المصرية.
مع كل خطوة جديدة، كانت الصبوحة، تتطور وتكتسب مهارات جديدة. بذكائها، أدركت في منتصف مشوارها الفني أنّ الجمهور بدأ ينصرف عن الأغاني الخفيفة التي كانت تقدمها، لذلك، أجرت نقلة نوعية حين لحّن لها فريد الأطرش وكمال الطويل، وبالتوازي صارت واحدة من أجمل أيقونات السينما المصرية. تبدلت ملامحها القروية، الساذجة، ونحافتها إلى جسد ممشوق فائر، صار رمزاً للأنوثة. كانت الصبوحة تتفنن في إظهار مفاتنها، وشياكتها وأناقتها التي أصبحت مثار غيرة نجمات ومطربات كثيرات.
ألهمت الكثير من السيدات في تلك الفترة، بعدما تحولت رمزاً من رموز الموضة والجمال والموهبة. لا أحد يستطيع أن ينسى مشهدها الخالد في فيلم «شارع الحب» (1958) مع عبد الحليم، عندما غنت له أغنية «لا»، والفستان الشديد الرقي الذي كانت ترتديه في فيلم «الأيدي الناعمة» (1963) مع أحمد مظهر. مدفوعةً برغبة في التنوع والتفرد، حرصت على تنويع التعامل مع مخرجين مصريين من مدارس مختلفة، بدءاً من بركات، وأحمد بدرخان، وصلاح أبو سيف في فيلم «مجرم في إجازة» (1958)، وحسن الصيفي في «خطف مراتي» (1954)، وعز الدين ذو الفقار في «الرجل الثاني» (1959) و«شارع الحب»، وحلمي حليم مخرج الرومانسيات، الذي أنجز لها فيلم «كانت أيام» (1970) مع رشدي أباظة وحسين فوزي، والمخرج الكوميدي فطين عبد الوهاب وصولاً إلى آخر أعمالها في مصر مع المخرج الشاب وقتها أحمد يحيى في «ليلة بكى فيها القمر» (1980) أمام حسين فهمي لتشارك في حوالى 70 فيلماً مصرياً. صباح حصلت على الجنسية المصرية في عهد الرئيس السادات، وبعد زواجها بعازف الكمان أنور منسي والد ابنتها هويدا، الذي كان أول أزواجها من المصريين.
بعده، ارتبطت بالإذاعي أحمد فراج، ورشدي أباظة في زيجة قصيرة. هكذا، حملت مصر بداخلها، وعانت حياة مليئة بالمآسي، كانت كفيلة بجعلها تتراجع في مشوارها الفني، أو تتوقف في محطات بعينها، ولكن فنها سواء وقوفها أمام الكاميرا أو وراء الميكرفون كان ترياق الحياة بالنسبة إليها. وإذا كانت أم كلثوم قد دافعت عنها في بداية مشوارها، فان الجمهور المصري رفعها إلى عنان السماء وتوّجها ملكة على قلبه، وعرش فنه، وشاركها الضحك والغناء والحب، والمعاناة وكل المعاني النبيلة التي جسدتها الصبوحة رمز الحياة ومعادلها الذي قلما يتكرر.