ربّما لأنه احترف صوغ المزاج، بطريقة لا يقدر عليها أحد مثله، أثقل عليه القدر الحزن بشكل لا يستحقه! لعلّ ذلك هو الاختصار الممكن، لتوصيف ما جرى تاريخياً مع المطرب السوري الأبرز في تاريخ بلاده: جورج وسوف أغدقت عليه الحياة شهرةً، ونجوميةً، ومالاً، وسطوة، وحضوراً، ومحبّة عامرة في قلوب الناس، لم تتمكّن حتى الظروف القاهرة من انتزاعها أو حتى زعزعتها. لكنّ الحياة كانت تعطيه بيد، وتسحب منه بيد أخرى. هكذا، جارت عليه بقسوة بالغة، وتفنّنت بضربه تحت الحزام، وصولاً إلى ابتلائه عام 2000 بمرض نادر في وركه لا يصيب إلا المتقدّمين في السن. لكن النتيجة كانت أن حققت العملية التي أجريت له في فلوريدا نجاحاً كبيراً، وسقطت التنبؤات الطبية حول صعوبة مشيه بعدها. وصل إلى مطار بيروت، ومشى على قدميه وسط حفاوة واستقبال جماهيري حاشد، ربّما يكون غير مسبوق في تاريخ الغناء العربي الحديث. وفي 20 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2011، نجا من الموت المحتّم، بعدما أصابته جلطة دماغية في يعفور قرب دمشق، نُقل على إثرها إلى المركز الطبي التابع للجامعة الأميركية في بيروت. حينها، صرّح لنا أحد الأطباء الذي أشرفوا على إسعافه من دمشق إلى بيروت بأنه عاد إلى الحياة بمعجزة حقيقية!عموماً كلّ ما حدث مع «الوسّوف» خلال مشواره من ملمّات ونوائب، يبقى في كفّة لا تتجاوز وزن ريشة، مقارنة بالضربة التي مني بها قبل أيّام، وستكون كفّة هذا المصاب الجلل، راجحةً بالحزن مدى الحياة، بعدما خطف الموت ابنه البكر وديع وسّوف. أما السبب فهو تفاقم حالته الصحية وتعرّضه لنزيف حاد بعد عملية جراحية خضع لها قبل أيام. وديع هو الابن البكر الذي تمنّى صاحب «أصعب فراق» أن يرتبط اسمه به، وبالفعل ناداه الجمهور وحيّاه في كل المسارح والمحافل بـ «أبو وديع» مع تصفيقات ضبطت و«دوزنت» هذا التشجيع، وأحالته لماركة وسمت كلّ إطلالاته ولقاءاته المباشرة مع الجمهور! ولن يكون خافياً على أحد، خصوصاً إذا كان أباً، شكل وجوهر العلاقة بين أي رجل وابنه البكر، فكيف إذا كان صديقه ورفيق أيّامه وأقرب الناس إليه مثلما كان وديع لأبيه؟!
ولأنّه لطالما كان «سلطان الطرب» استثنائياً، سرعان ما استحالت مواقع السوشال ميديا، خيمة عزاء افتراضية، تسيّجه بالتعاطف وتبعث له طاقة إنسانية عالية، أو ترد الجميل لمن رافق أحزان محبّيه وأفراحهم، وكان شريك يومياتهم بصوته ومنجزه الفني، بينما تسابقت عدسات بعض المنصات الإعلامية إلى مكان العزاء في الأشرفية في بيروت، بطريقة مؤذية. فما الذي يفيد بأن تضع ميكروفوناً وكاميرا بوجه أشخاص مكلومين وتسألهم عن مشاعرهم في لحظات مهيبة لا تنفع معها جلبة الإعلام!
عموماً أتمّت مراسم التشييع أمس الأحد ويستكمل العزاء في بلد «الوسوف» الأصلي الكفرون (محافظة طرطوس)، مدينة الشجر العالي والهواء النقي، حيث أهلها يعاملونه مثل «قدّيس» ينسجون الحكايات عن كرمه، وعن عطائه الروايات المسبوكة بخيوط الدهشة! هناك كانت بدايات «أبو وديع»، وبها يلوذ، كلّما ضاقت به الحياة، كيف لا ومن خشبات مسارحها المدرسية بدأ في الـ 13 من عمره؟ ثم شقت القافلة طريقها نحو الشهرة الساطعة، من دون أن يتمكّن أحد من التكهّن إلى أين ستمضي، وإلى أي حد ستكون طريقها وعرة، أو محفوفة بالمخاطر، حتى أتى اليقين فكذّب كل الشكوك!