خلافاً لمقالاته التخصيصية التي تسير مثل مجنزرة في طريق وعر، يكشف السينمائي السوري الشاب فراس محمد موهبة لافتة في فن الإخراج بعد تجربته الأولى بفيلمه القصير «الناس يلي فوق» (حوالي 22 دقيقة ـــ شارك في عدّة مهرجانات عربية ودولية)، وقد سيّج نفسه بحصانة فعلية مجرّد عرضه الأوّل في «مهرجان قرطاج السينمائي»، وحصد فيه جائزة التانيت الذهبي لأفضل فيلم وثائقي. صحيح لم تعد «أيّام قرطاج السينمائية» على الحال نفسه الذي كانت عليه أيّام الراحل نجيب عيّاد، لكنّ تاريخها يحميها إلى قدر كبير. في الفيلم، يجيد فراس محمد صوغ السهل الممتنع متسلّلاً ببراعة وافية إلى ليل دمشق. المدينة المترفة بالغنى، والمقهورة بظلامها الدامس وتهاوي خدماتها وعوز أهلها، تجيد دوماً لفت ساكنها وزائرها لما تخبّئه من مفردات قادرة على أن تكون قوام مادة فنية مبكّلة. غالباً الشوارع في الشام وكواليسها الخلفية وأسواقها تغطّ في بشاعة الفقر، وتخلّف يومياً جرحاً عميقاً لا يمكن أن يتعافى بسهولة، لكن لدى تقفّيها بعدسة المخرج الشاب، ستنعكس بصورة جمالية ساطعة، من ناحية التشكيل البصري، والعناية الواضحة بالصورة، والمنطق المقترح لحركة الكاميرا، ورصدها لتفاصيل ليليّة مبلّلة الصدق، ربما لا تعني شيئاً لمن يقيم فيها أو لعلّها تمثّل معاناة حقيقية لأصحابها. لكنها هنا تصبح مادة فنية تستحق المشاهدة بعناية، خاصة عندما نرى الكاراج تحت «جسر الرئيس» تحديداً، وهو يستحيل لما يشبه القصر التاريخي وهو يقبع كشاهد على كل شيء.يسرح السينمائي السوري بكاميراته في ليل المدينة كأنّه يعاتبه ثم يحتفي به، ويدلّل على مكامن لا يجيدها ليل مدينة أخرى في سوريا ربما، يدخل إلى سوق الهال ويراقب شكل الحياة فيه، يرصد باعة جوّالين وعتّالة منهكين ومشرّدين غدر بهم الزمن والأهل وكلّ شيء، وقبل كلّ ذلك رجل يعمل على توصيل زبائنه على درّاجته النارية بعدما استشهد أخوه وصار أمام مسؤوليات جسيمة. وكلّ ذلك يدور في فلك راقصة الملاهي الليلية التي قررت أن تكون حرّة ولا تطلب مساعدة أحد بعدما حوصرت بتخلّي عائلتها عن بعضها وعنها وبحرب دامية لا تبقي سوى الرماد، فأرادت حتى ولو بالرقص في هذه الأماكن أن تعبّر عما يدور في داخلها، وأن تكون حرّة وسيدة قرارها. هكذا، وكما يفعل مع باقي شخصياته، يواكب الشريط تفاصيل الراقصة، ويسجّل شهادتها منذ أن تبدأ بالماكياج إلى أن تطلّ على روّاد الملهى وتبدأ بالرقص. هنا، يفقد الفيلم جزءاً من حميميته وصدقه عندما تصوّر مشاهد الراقصة بشكل تمثيلي، بعدما رفضت غالبية الملاهي في دمشق أن تدخل كاميرا وتصوّر ضمنها، حرصاً على سرّية وخصوصية الزبائن. مقولة الوثائقي تتقاطع مع تفاصيل الفتاة الراقصة. لعلّها تريد أن تخلص إلى نتيجة مفادها أنّ هذه المدينة بمثابة فتاة شابة غضّة وفائقة الجمال، دفعها كلّ من كان قائماً عليها بعدما تخلّى عنها الجميع، لتهوي في مطارح منحدرة من التعب، لكنّها مع كلّ ذلك ما زالت قادرة على صوغ المزاج العالي.