يمر هذه الأيام عيد ميلاد «الزعيم» عادل إمام؛ وكان قد ظهر في فيديو قصير على مواقع التواصل الإجتماعي مع ثلةٍ من العائلة والأصدقاء الذين تحلّقوا حوله محتفلين بعيد ميلاده الثاني والثمانين.
يخطئ من يعتقد أنه أمام تجربةٍ سينمائية/ أدائية فحسب، إنها تجربة حياة خاصة وكاملة: لم ولن تتكرر مهما قيل. لقد بدأ عادل إمام من تحت الصفر بكثير، من راقب وعرف وسمع عن النجم المصري يعرف أنه قاسى وحفر بأظافره حتى وصل لما هو عليه اليوم، هو قالها غير مرةٍ وكررها: «كثيرون يرون عادل النجم، لكنهم لا يعرفون ماذا فعلت وكم قاسيت حتى وصلت إلى ما أنا عليه اليوم». خريج كلّية الزراعة في جامعة القاهرة بدأ مع مسرحيات مثل «أنا وهو وهي» وأفلام مثل «مراتي مدير عام» (1966) وأخذ فيها أكثر الأدوار ضآلةٍ وصغراً؛ وصل إلى قمّة إبداعاته مع تسيده الدراما السينمائية مع أفلام ذات أبعاد سياسية/ اجتماعية قوية مثل «احنا بتوع الأوتوبيس» (1979)، «المشبوه» (1981)، «الغول» و«الأفوكاتو» (كلاهما في العام 1983)، «الحريف» (1984)، «كراكون في الشارع» (1986) وبالتأكيد «حنفي الأبهة» (1990) وصولاً إلى مسرحية «الزعيم»، العمل الذي أعطاه اللقب الذي يستحقه: الزعيم، زعيماً شعبياً حقيقياً يشبه أي مواطنٍ عربي من أي مكان في الوطن العربي الممتد.
لا يمكن قراءة عادل إمام ومسيرته بمعزل عن كل ما حدث في العالم العربي. إنها فعلاً حكاية سندريلا، لكن ليس فيها نهائياً أي نوعٍ من السحر والأبطال الخارقين. هي حكاية الناس اليوميين العاديين: أن تحفر بأظفارك وأسنانك وجهدك وعرقك ودمك الطريق مهما قالوا لك بأنك لن تنجح. لم يكن إمام وسيماً مثل حسين فهمي ورشدي أباظة، أو من طبقةٍ أرستقراطية مثل أحمد مظهر ويوسف وهبي؛ لقد كان مثابراً، طموحاً، معافراً، وهذا ما جعله يتفوق على جميع مجايليه. رغم هذا كله، فقد كانت البدايات قاسيةً كثيراً. في بداياته، كان عادل إمام «مهرجاً» إلى حدٍ ما، يستخدم كوميديا الحركة الزائدة التي تصدر بإفتعال وانفعال، مكرراً مدرسة اسماعيل ياسين التي كانت جيدة في وقتها، لكن سرعان ما باتت منهكة لاحقاً، مما أدى بالسينما المصرية لدفنها لاحقاً وسريعاً. كان عادل إمام تكرارياً، يحفظ افيهات ويقولها، لكنه بذكائه سرعان ما تنبه بأنَّ هذا لن يفيده طويلاً، وبأنه سينقرض إذا ما لم يطوّر من حرفته وأسلوبه وتقنياته. من يراقب أداءات عادل إمام في أفلامه الأولى إبان انطلاقته، يرى فيه ممثلاً لا يمكن أن يتعدى أدواراً ثانوية: ممثلٌ يتلوى، يلوي شفتيه، ويؤدي بلا أي موهبةٍ توحي بالكثير. لاحقاً بدأ يغيّر كل ما فيه. اللافت أنَّ إمام برز بأدواره الجادة كما بأدواره الكوميدية: لقد أحب الناس كيف يغيّر إمام ملامحه من النقيض إلى النقيض: ومن السخرية/ التهكّم المطلق إلى الجدية المطلقة. هنا أصبح عادل إمام زعيماً فعلياً: ففي «الغول» (1983) بدا خارج إطاره الكوميدي نهائياً، شأنه في ذلك في «الحرّيف» (1984) ففي حين روى الأوّل حكاية صحافي استقصائي يقف بوجه سياسي/اقتصادي مرتشٍ وقوي، قدّم الفيلم الثاني حكاية لاعب كرة قدم من الحارات الشعبية لم يكتب له النجاح وإن على الطريقة الأميركية في ذلك العصر: grit and more grit، وهو ما يعرف بالسينما الالترا واقعية أو «وحل الواقع». تنبه إمام لأهمية السياسة ودورها في حياة الشعب العربي، لذلك اهتم بها، هو كان قد قارب السياسة قبل ذلك بسنوات في فيلم «احنا بتوع الأوتوبيس» (1979)، وإن لم يكن من بطولته لوحده. الفيلم انتقادٍ واضح لعصر الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. إنها حكاية مجموعةٍ ممن قبض عليهم الأمن المصري في إشارةٍ للأبرياء الذي تزج بهم الأنظمة الحاكمة في السجن تلفيقاً وغصباً، ليتحوّل تعبير «احنا بتوع الأوتوبيس» إلى صرخةٍ لا يزال يرددها كثيرون في إشارةٍ للمظلومين في السجون من دون أي تهمةٍ سوى ما تردده ذات الأنظمة القمعية الحاكمة. أحب عادل إمام التجريب في تلك المرحلة، فقدّم شخصيات أقل ما يقال عنها بأنها «مدهشة»: الجني في فيلم «الإنس والجن» (1985) وأثبت أنه يستطيع أن يكون «مخيفاً» في تجربة من التجارب القليلة والناجحة في أفلام الرعب العربية. في الوقت نفسه، قارب شخصية الشرير «الظريف» في «سلام يا صاحبي» وإن حافظ على «قصة نجاح الفقير» الشهيرة: إنه المجرم الصغير الذي يصبح أميراً للجريمة؛ لكنه يبقى على ذات البراءة والبساطة والإخلاص لصاحبه؛ والذي شاركه في هذه القصة سعيد صالح، زميله منذ البدايات، وأيام مسرحية «مدرسة المشاغبين»؛ وزميله الذي رافقه كذلك في إطلالته الدرامية الأخيرة، فيلمه «زهايمر» (2010) والتي أقل ما يقال عنها بأنها من أقوى المشاهد الثنائية في الدراما العربية.

في الإطار عينه، كان عادل إمام قد نضج قبل مرحلة هو كان قد نضج قبل ذلك بكثير، لم يعد يقبل بأن يأخذ أدواراً أقل منه، أقل من موهبته وأقل مما يريد قوله؛ لكن ما لا يعرفه كثيرون -أو على الأقل لا يتنبهون له- أنه كان في ذلك الوقت قد مرّ بأكثر من أربعين عملاً لم يكن فيها هو ذا أهمية. سرعان ما تنبه إلى ضرورة تكوين «دائرة» خاصة به حوله. أدرك أنَّه بحاجةٍ لكاتبٍ ماهر، مخرج حذق، ومؤدين يتخصصون لتعويم شخصيته وتمظهرها. جرب في البدايات كما هي العادة، إلى أن وصل إلى السيناريست والكاتب وحيد حامد ليقدّم معه سلسلةٍ أفلامٍ اجتماعية ذات أبعاد سياسية واضحة كان أبرزها «الهلفوت» (1985) «اللعب مع الكبار» (1991)، «الإرهاب والكباب» (1992)، «الإرهابي» (1994)، «طيور الظلام» (1995) و«النوم في العسل» (1996). كانت كل تلك الأفلام بمثابة تصويرٍ حقيقي واقعي -على ما يستطيع- للشارع الذي كان يغلي جراء أزماتٍ كثيرةٍ قاربها هو على طريقته الساخرة الغاضبة. هي حكاية المواطن العادي الذي يدخل احدى الأبنية الحكومية في «الإرهاب والكباب» حيث يتحوّل إلى إرهابي في لحظة غضب. إنه السؤال المركزي والرئيسي: ماذا سيحدث إذا ما غضب المواطن العادي؟ وقرر أن يثور بوجه السلطة البيروقراطية؟ في الفيلم لا إجابة، هو أصلاً يطرح السؤال لأنه يريد أن يضع الصورة أمام الجميع لا لإيجاد حل. في الفيلم كثيرٌ من أسئلة أرادها إمام مطروقة: الجندي الذي يستغله ويحتقره الضابط الأعلى منه رتبةً، الموظف الذي يقضي وقته في الصلاة من دون أن يؤدي واجبه تجاه المواطنين، الوزير الذي يريد أن ينتهي الحدث كي لا «تحدث شوشرة».
في «الإرهابي»، كانت جملة «لا تجادل يا علي» بمثابة «الثيمة» الكاملة للعلاقة مع التكفيريين: إنه تكفيري ريفي لا يعرف شيئاً، جُند من قبل أحد التنظيمات الإرهابية تحت وعودٍ بسيطة: سيزوجونه ويعطونه قليلاً من مال. طرح الفيلم التساؤلات حول استغلال الحركات الإسلامية للشباب وأحلامهم وتطلعاتهم في مقابل دولة لا تتعامل معهم إلا بالحديد والنار. سرعان ما يجد الإرهابي نفسه ضيفاً وإن بالخطأ على عائلةٍ «شبه متحررة»؛ ماذا سيحدث؟ بالتأكيد هناك الإنفجار. في «طيور الظلام»، هناك مقاربةٌ أخرى؛ وهي شخصيةٍ «ارتكبها» عادل إمام بشجاعةٍ بالغة. غامر إمام بأن يكرهه المشاهد ذلك أن الدور الذي لعبه كان لمحامٍ صغير من الأرياف، مرتشٍ ويريد الصعود إلى القمّة مهما كان الثمن. خلال رواية هذه القصة، نجد محامين آخرين: الإسلامي الذي برع رياض الخولي في رسمه بحرفة عالية، الذي هو أصلاً ليس بإسلامي ولا بمؤمن حتى، لكنه يجد طريقه مع «الجماعة»، فيصبح محاميها والناطق بإسمها؛ «الهتيف» (بمعنى صاحب الهتافات الثورية) الذي يجد نفسه في الشارع لأنه لا يساري الأجواء ولا يماشيها. إنه عصر «الأوغاد» و«طيور ظلام» جاهزة لافتراس كل شيء. في الختام، يلتقي «الطائران» الإسلامي والليبرالي في السجن في إشارةٍ ذات أبعادٍ عميقة، وكلاهما يدركان بأن هذه ليست إلا محطة في حياتهما وأنهما سيخرجان ليكملا ما بدآاه. وللمفارقة هو كان قد قدّم شخصية «المحامي» في فيلمه الكبير «الأفوكاتو» (1983) الذي كان قمّة في السريالية والعبث مع مخرج قدير يحب هذا النوع من الأعمال هو رأفت الميهي. أما في «اللعب مع الكبار»، فقد ارتضى أن يلعب -ولو في مراتٍ قليلة- بطولةً ثنائية مع نجم له ثقله هو حسين فهمي. هل كانت تلك محاولة إمام أن يقول بأنه سيبقى هو النجم الأوحد للعمل؟ هو كان قد جرّب سابقاً قبلها بسنوات مع «نجمة الجماهير» وقتها ناديا الجندي في فيلم «خمسة باب». كان عادل إمام «مفترساً» إلى هذا الحد في هذه المرحلة من عمره المهني والإدائي. الحكاية كانت كعادة هذا النوع من أفلامه: سيريالية إلى حدٍ كبير. «لا بطل» anti hero، معتاد، من دون أي مميزات، عاطل عن العمل، لكنه «يحلم»، فهل لهذا الحلم نهاية. ذات السريالية كنا قد شهدناها مع بطلٍ تشعر بأنه يقارب ذات الشخصية. ففي فيلم «المنسي»، كنا تقريباً أمام ذات «الكاركتر» وإن كان بلا أنيابٍ ومخالب، هل كان إمام ومخرج وكاتب الفيلم يريدان أن يقولا لنا بأننا أمام ذات الشخصية لكن بعد انكسارها؟ «المنسي» كانت حكاية شابٍ يعمل في «سكة الحديد»، وهو الآخر «يحلم». هل هناك ثمنٌ للحلم؟ بالتأكيد.
لاحقاً تنبه الرجل إلى أن الجو العام لن يتحمل افلاماً سياسية أو اجتماعية إلا بمقدار ما تكون «خفيفة». هو لجأ إلى تخفيف «الوطأة» لأنه عرف بذكائه أنه لم يعد بحاجة «لتحديد» مكانه ومكانته لدى الجمهور العربي: لقد أصبح «النجم العربي الأوحد» وحتى أهم من جميع مجايليه، سابقيه، وحتى لاحقيه. هناك بدأت مرحلة أفلام مثل «التجربة الدنماركية» (2003) والتي بدأ من خلالها ارتداء أدوار الوظائف العليا: الوزير، النائب، السياسي، الضابط الأمني. لم يعد عادل إمام شعبياً في هذه المرحلة: خلع طقم الجينز الذي ظهر به وارتداه معظم أفلامه السابقة وحتى في مسرحيته الشهير «الواد سيد الشغال» (1985) وفيلمه الأكثر قرباً للجماهير «حنفي الأبهة»، واستبدلها بالبذلة «السموكنغ» الرسمية، أو على الأقل ثياب رسمية تشي بثروةٍ من نوعٍ ما. لاحقاً أعاد إمام «زكزكته» السياسية من خلال فيلم «السفارة في العمارة». للمرة الأولى، قارب فكرة وجود سفارة الإحتلال الصهيونية في القاهرة. صحيحٌ أن المقاربة كانت سخيفة بعض الشيء، إلا أنها كانت ضرورية في مرحلةٍ ما. ولأن الموضوع يستحق القراءة، وحدها تجربة «عمارة يعقوبيان» (2006) كانت مختلفةً في حياة النجم المصري: لم يكن بطلاً وحيداً، لم يكن العمل يتمحور حوله أو حول شخصيته، فضلاً عن كونه روايةً شهيرة لكاتب مصري، وهو ما جانبه إمام طويلاً. هل كان ذلك الإختيار مقصوداً؟ بالتأكيد، لكن لماذا؟ الصدق يقال إنّ النجاح كان حليفه، هو اثبت علو كعبه الأدائي في العمل، وتكفي جملته الأثيرية التي بات الجميع يكررها تقريباً، واصفاً الواقع الحالي المعاش: إحنا في زمن المسخ.
على الموجة نفسها، لم ينس إمام بذكائه المتقد أن عليه أن يكون «نجم مسرح» في الوقت الذي يكون فيه نجم «شباك» تذاكر. لذلك استمر بعرض مسرحيته «الزعيم» لسنواتٍ طوال، وبعدها «بودي جارد»، وقبلها «شاهد ما شافش حاجة» (1976) التي شهدت ولادته كغول مسرح حقيقي، بعيداً عن زملاء البدايات في «مدرسة المشاغبين» (1971)، الذين كانوا يعرضون مسرحيتهم «العيال كبرت» في ذات وقت عرض «شاهد ماشافش حاجة». كان إمام يسيطر فعلياً على السوق المسرحي العربي بشكلٍ غير مسبوق. فمسرحياته كانت بمثابة جاذب حقيقي ليس للسياحة فحسب، بل لكل محب للفن. كانت «إيفيهاته»، طريقته في الأداء، حركته، وفوق كل هذا «نظرته» وحركات وجهه، تتعدى المعتاد في التمثيل العربي. ويكفي فقط أن ندرك أنه بقي يعرض أعماله لسنواتٍ طوال في الوقت عينه الذي كان يصنع فيه أفلامه.
بعد هذه المرحلة، وجد «الزعيم» أنه لا بد من أن يجتاح أرضاً لم يكن قد تسيدها من قبل وهي التلفزيون، خصوصاً أنه فهم بأن التلفزيون لم يعد ثانياً أمام السينما، بل إنه أصبح اليوم الأقوى فيما تتراجع السينما تدريجاً. وعلى الرغم من أنه دخل التلفزيون مع بداية الثمانينيات مع مسلسلٍ ناجح ومهم هو «دموع في عيون وقحة» (1980) في قصة واقعية مأخوذة من حياة الجاسوس المصري جمعة الشوان الذي اخترق المخابرات الصهيونية، فقد دخل عالم التلفزيون وقدّم تجارب رمضانية لم تكن بجودة أفلامه بالتأكيد كما في «فالنتينو» (2020) مثلاً لكنها أشبعت نهم عشاقه وجمهوره لرؤيته؛ وظل إمام ممثلاً قديراً قادراً على أن يمتع ولو حتى في مشهدٍ صغير.
في المحصّلة، سواء كان إمام «بهجت الأباصيري» أو «حسن سبانخ» من «الأفوكاتو»، أو فارس بكر من «الحرّيف»، أو سيد الكوواي من «سيد الشغّال»، حنفي الأبهة أو شمس الزناتي، أو في أيٍ من 126 فيلماً، و16 مسلسلاً، و11 مسرحية التي قدّمها خلال حياته؛ يظل عادل إمام هو ذاته: محبوباً، لطيفاً، يشبه الناس العاديين اليوميين الذين أحبّهم وأحبوه، وتوجوه كأميرٍ وزعيمٍ حقيقي، فوق كل الزعماء وعلى أبي الفنون.