كثيرون أمضوا ليلتهم أمس الخميس يشاهدون «أصحاب... ولا أعزّ» (99 د ــ تجربة اللبناني وسام سمَيْرة الأولى في مجال السينما)، أوّل أفلام «نتفليكس» الأصلية الناطقة بالعربية، بعدما أبصر النور أخيراً عقب تأجيل تصويره مرّتين بسبب الاحتجاجات التي عمّت الشارع اللبناني في خريف عام 2019 وما تلاها من اضطرابات سياسية، فضلاً عن انتشار فيروس كورونا. بعد ساعات من إتاحته للعرض في 190 دولة عبر منصّة البثّ التدفّقي الأميركية التي وفّرته أيضاً مدبلجاً إلى 3 لغات ومترجماً بـ 31 لغة، بدأت ردود الأفعال تتوالى على شبكات التواصل الاجتماعي. في مقابل الثناء على الفيلم الذي يعدّ أوّل إنتاجات شركة Front Row في إطار اتفاقية الشراكة التي وقّعتها العام الماضي مع «نتفليكس» لإنجاز باقة من الأفلام العربية، خرجت أصوات بعض «حُماة الأخلاق» لتستنكر «الألفاظ البذيئة والخادشة للحياء» الواردة في الحوار، ووجود شخصية مثلية، ناهيك بالمشهد الذي تخلع فيه المصرية منى زكي سروالها الداخلي! فكيف للشتائم أن تخرج من فم شخص بين أصحابه أو في لحظة غضب؟ ومَن قال إنّ الهويات الجنسية منوّعة في مجتمعاتنا؟ وكيف لامرأة يهملها زوجها منذ فترة أن تخوض مغامرة جنسية صغيرة عبر الإنترنت، لعلهّا تشعر بأنّها لا تزال «حيّة» ومرغوبة؟
الشريط مقتبس من عمل إيطالي صادر في عام 2016، حصد جوائز عدّة (من بينها جائزة ديفيد دي دوناتيلو التي تمنحها «أكاديمية السينمائي الإيطالية» عن فئتَيْ أفضل فيلم وأفضل سيناريو) وشعبية واسعة بعنوان Perfetti Sconosciuti (غرباء بالكامل ــ تأليف فيليبو بولونيا ــ عُرض عالمياً للمرّة الأولى خلال «مهرجان ترايبيكا السينمائي») للمخرج باولو جينوفيز. وكان العمل قد حقّق 20 مليون دولار أميركي في شبّاك التذاكر الإيطالي، و31 مليوناً على صعيد العالم. نجاح أدّى إلى تقديم أفلام من العمل نفسه في إسبانيا والمكسيك وفرنسا وكوريا الجنوبية واليونان والصين وروسيا وأرمينيا وتركيا وفيتنام وهولندا وبولندا وألمانيا وغيرها.
بدورهم، أشاد النقاد الإيطاليون بجينوفيز لمحاولته إحياء أحد أهم الأنواع السينمائية المحلية: commedia all'Italiana (الكوميديا على الطريقة الإيطالية). وهو جنر استمرّ من أواخر الخمسينيات حتى أوائل الثمانينيات، وبدأ في 1958 مع فيلم I Soliti Ignoti (إخراج ماريو مونيتشيلي). وقد تميّزت هذه الأشرطة بأنّها أكثر سخرية وتهكّماً من أفلام الواقعية الجديدة التي أدّت إلى شهرة السينما الإيطالية بعد الحرب مباشرةً، خصوصاً خارج البلاد.
اعتبر كثيرون أنّ ما قرّر باولو جينوفيز فعله في عمله هذا شجاع لكنّه محفوف بالمخاطر!
ذات يوم، قال غابريال غارسيا ماركيز إنّه «لكلّ شخص ثلاث حيوات: عامّة، خاصّة وسريّة». انطلاقاً من عبارة الأديب والروائي الكولومبي الحائز جائزة «نوبل»، يعمد جينوفيز إلى كشف مدى السخرية الكامنة في قدرة الموبايل على طمس الحدود التي نضعها بين أشكال وجودنا المختلفة، حيث يوافق سبعة أصدقاء يجتمعون على مائدة العشاء في ليلة خسوف القمر على الانخراط بلعبة قائمة على وضع الجميع هواتفهم المحمولة على الطاولة، بشرط أن تكون الرسائل أو المكالمات الجديدة أو الرسائل البريدية الإلكترونية على مرأى ومسمع من الجميع. وسرعان ما تتحوّل اللعبة التي كانت في البداية ممتعة وشيّقة إلى وابل من الفضائح والأسرار التي لم يكن يعرف عنها أحد.
وفي هذا الإطار، سبق أن قال المدير الإداري لشركة Front Row للإنتاج، جيانلوكا شقرا، في تصريحات إعلامية إنّه «سواءً كنت رجلاً أو امرأة، لدينا جميعاً ما نخفيه... الكذب فعل عالمي»، لافتاً إلى أنّ باولو جينوفيز وفريقه قدّموا أحد «أكثر السيناريوات ذكاءً وقابلية للاقتباس عالمياً... نحن سعداء بخوض هذه التجربة».
للمرّة الأولى، يجمع الفيلم الذي سُمي بدايةً «ليلة بلا ضو القمر» نخبة من النجوم العرب، وهم: المصرية منى زكي، الأردني إياد نصار واللبنانيين نادين لبكي وجورج خبّاز وعادل كرم وفؤاد يمين وديامان بو عبود. وهو من إنتاج Front Row Filmed Entertainment وFilm Clinic وEmpire Entertainment وYalla Yalla. أما تعريب النص الأصلي، فهي مهمّة تولّاها وسام سمَيْرة بالتعاون مع الفنان اللبناني غابريال يمين. فجاءت النتيجة سلسة بمصطلحات واقعية، تعكس أجواء هكذا نوع من اللقاءات والمواقف، وإن كانت لا تخلو أحياناً (لاسيّما في بداية الحديث حول الطاولة) من بعض التنظير والكليشيهات المعلّبة.
الخسوف مجرّد حالة مجازية، لجأ إليها جينوفيز ومن بعده سمَيْرة لخلق إيقاع للفيلم الذي يدور حول ما لم يُقل. والخسوف، كما الشخصيات، يخفي شيئاً آخر. فمثلما الأسرار هي ما نخفيه في حياتنا، أثناء الخسوف يخفي ظلّ الأرض القمر عن الأنظار. هذه الاستعارة مثيرة للاهتمام، وخلال حدوث هذه الظاهرة الفلكية التي تعدّ نذير شؤم في حضارات عدّة، تنقلب الأحداث على المائدة رأساً على عقب، ليتبيّن في النهاية أنّ من ظنّوا أنفسهم أصدقاء عمر يحفظون بعضهم بعضاً عن ظهر قلب، ما هم إلّا «غرباء بالكامل».
يسير وسام سمَيْرة بأمانة على خطى نظيره الإيطالي. فرغم أنّ الجزء الأكبر من الأحداث يجري في موقع واحد، ينجح المخرج الشاب في التغلّب على هذه الجزئية عبر تقديم كادرات منوّعة مقطّعة بسرعة وتوازن، متسلّحاً بقصّة جذّابة ومترابطة تزخر بالأحداث والتطوّرات المتسارعة التي تقطع الطريق على الملل، فيما تبثّ جرعات وافرة من الضحك والتوتّر في آنٍ معاً.
كلّ هذه العوامل، إلى جانب أداء الممثلين المقنع، ساهمت بشكل أو بآخر في خلق مادّة بصرية لافتة.
كما النسخة الإيطالية، يصوّب «أصحاب... ولا أعزّ» على الطريقة التي استحوذت من خلالها الهواتف المحمولة على حيواتنا، لكنّ مصدر الشعور بالضيق هنا ليس تقنياً. فبين هؤلاء الأصدقاء السبعة، الأسرار هي الثابت الوحيد. قد يكونون جميعاً كاذبين، لكن من هو مُطلق شرارة «الفوضى»؟

*«أصحاب...ّ ولا أعزّ» متوافر على «نتفليكس»

و