إلى غير رجعة، انتهت الحقبة السعودية التي تحرّم الفن والموسيقى والسينما. تقف وراء ذلك خطّة صمّمها ولي العهد محمد بن سلمان، حملت عنوان «رؤية 2030». بمجرّد الإعلان عنها، سقطت فتاوى التحريم والقراءات المتشدّدة، وتقاعد أغلب رجال الدين الذين استولوا على الساحة لعقود، وفرضوا مدرسةً سلفيّةً وهابية على المجتمع. هكذا، تصدّرت المشهد السعودي الجديد حفلات لمطربين عرب وأجانب، وعروض أزياء ومعارض فنية ومهرجانات موسيقية وسينمائية ومسرحية بطول البلاد وعرضها، بحجة إعداد الاقتصاد لمرحلة ما بعد النفط.انطلق قطار الترفيه السعودي، بداية عبر تأسيس «الهيئة العامة للترفيه»، الصندوق الحكومي المخصّص للإنفاق على إقامة المهرجانات، وتوقيع العقود مع شركات إنتاج الترفيه العالمية. انتهى عام 2021 في المملكة بتصدّرها المشهد السينمائي والغنائي في المنطقة، مع أضواء صاخبة وحشود من المشاهير من كل أنحاء العالم لحضور «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة القديمة. في دورته الأولى، عرض المهرجان 135 فيلماً من 67 دولة، منها 27 فيلماً سعودياً، وخصّص ما نسبته 38% من الأفلام للاحتفاء بدور المرأة في صناعة السينما. الفعالية التي تأجّلت لأكثر من عام بسبب كورونا، منحت حوالى مليون دولار للمشاريع الفائزة بجوائز المهرجان.
ومع غياب كامل وقسري لغزوات «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي استُبدلت بـ «هيئة الترفيه»، شهدت الرياض أخيراً الدورة الثانية من المهرجان الموسيقي العالمي «مدل بيست» الذي حضره أكثر من 700 ألف زائر، غالبيتهم من الجيل الشاب. جيل كان في الماضي القريب تحت مجهر «مركز الدراسات في هيئة الأمر» الذي كان يصدر إحصاءً عن السلوكيات الدخيلة الأكثر انتشاراً بين الشباب السعودي. دعم التعطّش الشبابي للموسيقى والترفيه والأفلام، السعي السلماني لترسيخ صورة التغيير في المملكة بالرغم من سجلّها في مجال حقوق الإنسان. إذ علّقت منظمة «هيومن رايتش ووتش» على المهرجان بأنّه «ينبغي للفنانين والمروّجين في مهرجان «مدل بيست ساوندستورم» استخدام الميكروفونات والمسارح والمقابلات للتحدث علناً عن الانتهاكات الحقوقية في السعودية أو رفض المشاركة في أحد المخطّطات السعودية الأخرى لتلميع صورتها». وقبل إحيائه ختام سباقات الجائزة الكبرى لبطولة «فورمولا 1» للسيارات على شاطئ جدة، ناشدت خديجة جنكيز خطيبة الصحافي جمال خاشقجي، في رسالة مفتوحة المغني الكندي، جاستين بيبر، على رفض الغناء أمام قتلة الكاتب السعودي، كونه «يبعث برسالة قوية إلى العالم مفادها أنّ اسمك وموهبتك لن يستغلا لاستعادة سمعة نظام يقتل منتقديه».
احتفاء بدور المرأة في صناعة السينما


إذاً، تنوّعت التظاهرات الثقافية والترفيهية في المملكة عام 2021. عشرات الآلاف من الفعاليات ضخها «موسم الرياض» و«مواسم السعودية الـ11» الذي خصّصت لها الحكومة باقة على منصة «شاهد» لمتابعة برامجها المتنوعة. معارض فنية ومسرحية، وإنشاء مناطق تستوحي تصاميمها من ميدان «تايم سكوير» في نيويورك، وأكاديمية لتعلم الموسيقى، سبقها الإعلان عن خطط لإنشاء دار للأوبرا، ومنصات للعروض الحية، ومنطقة مسارح متخصّصة تحمل أسماء فنانيين محليّين: مسرح محمد عبده، ومسرح أبو بكر سالم... «هيئة المسرح والفنون الأدائية» عرضت توجّهها لإنشاء مشاريع مسرحية وأكاديمية، والسماح بتوفير التعليم والتخصّصات المسرحية في المؤسسات التعليمية. البهرجة وعروض السجاد الأحمر وأضواء الاحتفالات في المملكة، غطّت على قصص تشدّد المؤسسة الدينية وفصولها السوداء. قبل ولاية عهد محمد بن سلمان، كان رجال الدين يمتلكون صلاحية اقتحام المجالس الأدبية والمسارح لإخراج النساء أو وقف العروض الفنية والموسيقية واعتقال الشعراء والكتاب ومصادرة الكتب. وبعد توليته ولتحسين صورتهم أمام العالم، أُجبروا على تقديم الزهور والبالونات الملونة لزوار المعارض الثقافية، وتحويل صفحاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي من الدعوة إلى نشر الوهابية وتحريم الفنون، إلى تقديم النصائح الصحية والدعاء.