لم يترك كريستيان لاكروا مجالاً إلا وصمّم فيه، من الأزياء مروراً بملابس عروض الباليه والمسرحيات الأوبرالية وصولاً إلى الفنادق وعربات الترامواي. لكنه هذه المرة قرر أن يصمم لنفسه حلّة مهنية جديدة، من خلال توليه للمرة الأولى إخراج مسرحية ينتقل من خلالها الى مغامرة مختلفة.لم يكن إخراج أوبرا «الحياة الباريسية»، أحد أشهر أعمال الملحّن الفرنسي المولود في ألمانيا جاك أوفنباخ (1819-1880)، من أحلام كريستيان لاكروا يوماً.
وقال لوكالة «فرانس برس»: «أعترف بأنني وجدت نفسي في حالة ضياع قليلاً، بل كثيراً، إذ لم يعد في جعبتي أي حلم».
تولى لاكروا الإخراج وتصميم الديكور والأزياء في النسخة الجديدة من هذا العمل الأوبرالي الكوميدي الذي رأى النور في باريس عام 1866. وقدُمت «الحياة الباريسية» أخيراً في دار الأوبرا في مدينة روان، على أن تنتقل عروضها إلى أوبرا تور لتحط على خشبة مسرح الشانزليزيه في باريس من 21 كانون الأول (ديسمبر) 2021 إلى 9 كانون الثاني (يناير) 2022، ثم تنطلق لجولة في فرنسا وخارجها.
رأى الفنان البالغ 70 عاماً الذي اعتزل تصميم الازياء الراقية قبل نحو عشر سنوات أنّ «في الحياة فرصاً غير متوقعة لا يمكن تفويتها». وقال: «لم يخطر (الإخراج) في بالي يوماً، تماماً كما لم أكن أتوقع مطلقاً قبل عام 2000 أن أعيد تصميم الديكور الداخلي للقطار الفائق السرعة (تي جيه فيه) أو لترامواي مونبلييه».
كما لاحت لكريستيان لاكروا «فرصة مفاجئة» للتعاون مع مركز الموسيقى الرومانسية الفرنسية «بالاتسيتو برو زانيه» الذي يُخرج من النسيان أعمالاً غير معروفة وملحنين غير ذائعي الصيت. ومع أن أوبرا «الحياة الباريسية» معروفة جيداً، اكتشف خبراء الموسيقى في المركز مقتطفات منها حذفت سابقاً أو لم تُعزف من قبل.
وأضاف: «يقولون إن التقدّم يتطلب من المرء المغامرة باتجاه تجارب لم يعتَد عليها، وشعرت بأنها اللحظة المناسبة» لذلك، واصفاً نفسه بأنه «مبتدئ» في مجال الإخراج.
إلاّ أن لاكروا ليس غريباً عن عالم الخشبة، بل على العكس. فهو سبق أن صمم أزياءً وأحياناً ديكورات لمسرح «كوميدي فرانسيز» ولـ «باليه أوبرا باريس» ولعدد من دور الأوبرا.
وروى أنه عندما كان يحضر مسرحيات أو أعمال أوبرا في الماضي ويخرج منها «بخيبة نوعاً ما»، كان يبادر لدى عودته إلى منزله إلى «إعادة رسم ديكوراتها وأزيائها» على طريقته الخاصة. وفي صغره، كان يحلم أصلاً بأن يكون مصمم أزياء وديكور للأعمال السينمائية أو المسرحية.
وتابع قائلاً: «كان العالم، كما هو في الحياة اليومية، يُصيبني بالملل، مع أن طفولتي كانت سعيدة ومُدللة في مدينة آرل الجميلة. لكنني شعرت بالحاجة إلى تخيل نفسي دائماً في أجواء أقرب إلى الأحلام، وفي مناخات باروكية، وعوالم غير عادية».
على خطٍ موازٍ، أشار لاكروا إلى أنه كان يشعر «بالحاجة إلى تحويل المنازل والشقق والأثاث والملابس والأشياء من خلال إعادة رسمها، إلى درجة» أنّه جعل ذلك مهنته «من خلال الخياطة والتصميم وديكورات الفنادق وحتى محطات انتظار الحافلات».
جمع المصمم طوال 60 عاماً آلاف الوثائق عن أزياء المرحلة الممتدة من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وعن لوحاتها وديكوراتها.
وعاد الفنان بالذاكرة إلى ستينيات القرن الفائت وسبعينياته عندما كان يزور «العلّيات والمكتبات وأسواق الأغراض المستعملة». ولا يزال إلى الآن يجمع الصور «كل يوم، ولو من خلال إنستغرام».
وتتناول أوبرا «الحياة الباريسية» جوانب الترفيه في مجتمع العاصمة الفرنسية خلال القرن التاسع عشر، وهو عمل يعكس بالنسبة إلى مخرجه «أسطورة باريس التي لم تكن موجودة يومأ، إلا لقلة من ذوي الامتيازات». وأضاف: «نحن نتظاهر بتصديقها» لأنّ أوفنباخ «خلّدها وضخّمها».
ومن أشهر أعمال الملحّن «أورفيوس في العالم السفلي» التي أصبح جزء منها من رموز العروض الراقصة في ملاهي الكاباريه الباريسية. ولاحظ لاكروا أن أعمال أوفنباخ جسّدت ملذات هذه الحقبة «بعبقرية موسيقية (...) تشكّل للعالم كله رمزاً لباريس».