آلة الزمن جاهزة في أيّ وقت. ليس عليك اليوم وأنت تعيش في سوريا سوى أن تدير عقاربها، لتهرع بك نحو الماضي! كلّ خطف باتجاه الخلف هو ربح أكيد، في مواجهة مواسم الخسارة اليومية. الموت سيّد الأحكام. هكذا تبدو البلاد المسيّجة بتفاصيل مرهقة أثقل من جبال الأرض كلّها، وهي تجثم على قلب واحد لا أكثر. مساء الأمس كان علينا أن نركب آلة الزمن ونعود على الأقل نحو أواخر أيام الزمن الجميل، أي قبل انتشار الخراب في الشام ببضعة شهور. كان ذلك قبل 12 عاماً تقريباً، يوم وقفت ستيلا خليل (1941/2021) مكرمة على مسرح «أدونيا» (جائزة الدراما السورية) وذرفت دموعاً حارة من مطرح عميق في روحها. بدت بأنها ممتنة فعلاً للحظة الوفاء العامرة بالكرم، من كلّ الحضور الذين صفّقوا وقوفاً لقامة فنية حقيقية.درست في «المعهد المسرحي» في روسيا، اختصاص ماكياج وأزياء. بدأت العمل في سوريا منذ عام 1973 وعملت في «المعهد العالي للفنون المسرحية» كأستاذة لمادة الماكياج والأزياء سنة 1981 أي كانت من أعمدة ومؤسسي الصرح الأكاديمي الذي خرّج أهم وألمع نجوم الشام، وبينهم ابنها النجم مكسيم خليل. عاصرت المرجعية المسرحية السورية فوّاز الساجر، وتأثرت به كما حصل مع غالبية مسرحيّ البلاد المكرّسين، فيما كانت تقف خلف صناعة الجمال على وجوه الممثلين بأمّهات الأعمال التلفزيونية بينها: «دائرة النار» «البركان» «خان الحرير» «عمر الخيّام» «بقعة ضوء» وآخر ما اشتغلته وكان سيت كوم ملفت هو «هومي هون» (إخراج باسم ياخور)
المرأة الروسية التي تزّوجت هاني خليل، وتنازلت كلياً عن كنيتها الروسية لأجله، وأصرّت مدى حياتها على أنها ستيلا خليل حتى بعد انفصالها عن زوجها، كانت ترفض التصريح عن اسمها الأصلي ولو في لقاءات صحافية. بشهادة غالبية طلّابها، مدّت لهم حُزماً من أيادٍ بيضاء كلّما احتاجوا لها، بذريعة علاقات زوجها الواسعة آنذاك، وقد كان أحد مستشاري الرئيس الراحل حافظ الأسد! ظلّت حتى آخر عمرها تردد بحنيّة مفرطة، ولكنة عربية مكسّرة: «كلّ من درسّتهم كانوا مثل أولادي بالضبط». لم تكن الراحلة مجرّد ماكييرة تضع المساحيق على وجوه الممثلين وتمضي، بل كانت صاحبة وجهة نظر في السينوغرافيا. تعرف جيداً في تصميم الأزياء، وتعطي رأياً صريحاً ومتزناً في الإضاءة والديكور. تقول ما يجب أن يقال بتكثيف عالٍ في ما يخص الحرفة في صوغ الفرجة الفنية، متسلحة بمعرفة وعمق وثقافة واسعة، ورسوخ وجداني لدى أجيال تتلمذت على يديها! تصيّد كثيرون فكرة أنها كانت مقيمة في «درا السعادة للمسنين» رغم أنّ أسماء مخضرمة مثل المخرجين: علاء الدين كوكش، ورياض دياربكرلي أمضوا آخر سنوات حياتهم بقرار شخصي منهم في هذه الدار. لكن مع ستيلا، حوّل كثيرون الأمر إلى حربة، طعن فيها ابنها النجم السوري مكسيم خليل بسبب مواقفه المعارضة، لكنّها سنة 2018 وإثر تفاقم القصة بعد منشور مريب كتبه بطل «الولادة من الخاصرة1/2» (سامر رضوان ورشا شربتجي) عن المنتخب السوري، أطلّت ستيلا في لقاء أجرته معها «إذاعة نينار» (برنامج «فتح محضر» تقديم فارس زاخور ويارا اسماعيل) قطعت حينها الشك باليقين وقالت: «ابني ربيّته على الوطنية والصدق، ورأيه حريّة شخصية لا أستطيع أن أتدخّل بها. هو رجل حنون وكلّ مستلزماتي وحاجاتي المادية يلبيّها من بعيد، ولو كنت أتمنى أن أكون معه لكنّها الظروف».
طبعاً الحديث لم يدر ولا مرة بشكل موازٍ مثلاً عن الخلل التشريعي الصريح الذي حرمها حمل الجنسية السورية، خاصة أنها عاشت ثلثي حياتها فيها، وهي قامة فنية قررت الاعتصام في الشام إلى سنوات متقدمة من عمرها، وقد زارت ابنها في بيروت ثم عادت إلى بيتها نزولاً عند رغبتها أن تعيش جو أسري، ورافقتها ممرضة لحين أغمضت عينيها للأبد ليلة أمس. وفي الوقت الذي سارعت طالبتها النجمات السوريات: مريم علي وشكران مرتجى وأمل عرفة لنعيها على الفايسبوك، كتب مكسيم خليل قبيل ساعتين من الآن نعياً مؤثراً على صفته الزرقاء قال فيه: «إلى المرأة التي هزّت جدران قلبي. أرى روحك تعبّر بين مسارح دمشق، تسير في الحارات القديمة التي أحبّت، خلف مرآة الممثل، وكواليس القباني، وتاريخ المعهد العالي للفنون المسرحية، بين دمّر والأمويين.. أراها تهرب من جسدٍ ما عاد يشبهها.. قويةً وحرّة ومخلصة كما كانت.. أراها في مكانها، بين يديّ الرب، محاطة بأصدقاء الزمن الجميل.. حيث لا مكان سوى للضحك.. أراها في سمائي.. تنظر إليّ في غُربتي.. تمسك يدي في وحدتي الطويلة.. منذ الطفولة وحتى الأبدية.. تحرسني إلى حين اللقاء.. أراها الآن مطمئنة.. بحمى الرحمن ..كما تستحق.. ستيلا حبيبتي يتيم أنا الآن يا أمي»