القاعدة الأساسية في الدراما تفرض عليها أن تكون مرآة تعكس تفاصيل الواقع. لكن الفرق أنّ الحياة في الدراما تتخطى كل الموانع، وتنجز بكامل تفاصيلها، حتى الأشياء التي لا يمكن حدوثها على أرض الواقع! يمكن القول إنّ الدراما هي ارتفاع شبر عن الحياة بعد التصنيع الحكائي المتقن لما يمكن أن يحدث في سيرورة اليومي المعاش...شذّت الدراما العربية عن تلك القواعد بشكل أو بآخر، خاصةً الدراما السورية اللبنانية المشتركة التي غرقت في الحديث عن قصص الخيانة الزوجية، وصراعات رجال المال، وتفاصيل متعلقة بالحب الساذج، إضافة إلى تكريس أسماء معينة من الممثلين يتم تدويرهم بالإتفاق مع شركات الإنتاج والمحطّات العارضة.
على خطٍ موازٍ، وبالرغم من أنّ السوريين واللبنانيين صنعوا مجموعة كبيرة من الأعمال معاً، إلا أنّ هناك حالة تنافسية واضحة من البلدين، بسبب كم كبير من التشابه بين البيئتين والمنطق السائد فيهما. ربّما تكون هذه المنافسة قد وصلت إلى أشدّها بعد محاولة الدراما اللبنانية الخروج من عباءة شقيقتها فعلاً، والاستقلال بمنطق صوغها، وتقديم قصص محلية خالصة، بالإفادة من كم النجوم الذين صاروا معروفين على مستوى الوطن العربي، وباتوا يلعبون أدوار بطولة أولى، يدعمهم منطق بعض الكتّاب وأسلوبية شغل المخرجين الذين برع بعضهم في الفيديو كليبات أولاً. سيبرز هنا اسم سعيد الماروق كأحد أهم هذه الأسماء التي أوصلت الفيديو كليب إلى مكان محترف للحد الأقصى. رفع فيه الأجور، وقدم جودة فنية واضحة للصورة، ثم تعافى بشغله من منطق أنّ الكليب عبارة عن فيديو يواكب الأغنية، إلى مطرح له علاقة بصناعة قصة درامية توازي جوهر المادة الموسيقية التي يتم طرحها للتداول.
ينشغل سعيد الماروق حالياً بإنهاء مسلسل من 10 حلقات بعنوان «دور العمر » (كتابة ناصر فقيه، إنتاج منصة «شاهد» ــ منتج منفذ roof top production/ بطولة: سيرين عبدالنور، عادل كرم، طلال الجردي، غابريال يمين، نوال كمال، يارا فارس، جان دكاش وباقة من الممثلين اللبنانيين)، يقدّم دراما نفسية تشويقية من خلال شخصية ممثل شهير (عادل كرم) توقعه سيدة متمكنة من أدواتها (سيرين عبد النور) تعاني من مرض نفسي يجعلها تقيم علاقة جنسية معه، فيكتشف زوجها خيانتها ويقدم على تصويرها ومحاولة ابتزازها!
لذا تدفع عشيقها لتصفية زوجها، ثم تحيله قاتلاً مأجوراً بذريعة أنوثتها ودهائها وقدرتها الخارقة على التأثير! استعان فريق العمل اللبناني الخالص بالسوري حسام الحمد لصناعة شارة متقنة. هكذا، يذهب المسلسل نحو استقطاب أكبر شريحة ممكنة من الجمهور، إذ تفيد الدراسات الأميركية بأنّه بمجرّد أن تذهب الدراما إلى الجانب التشويقي البوليسي، فإنّها تكسب سلفاً حوالي 70 في المئة من المشاهدين. بالتالي، يمكن القول إنّ المسلسل يمهّد الأرض بشكل جيد لتحقيق جماهيرية قصوى، بالإتكاء على منصة هي الأولى عربياً، كما أنه يلعب على منطق الدراما النفسية التي تصلح غالباً لمثل هذه النوعية من الأعمال المكثفة (mini series).
المفارقة أنّ العمل الذي يعرض في تموز (يوليو) المقبل يعتبر دراما لبنانية مكتملة، تُقدم بميزانية كبيرة، وإمكانيات إنتاجية مترفة، إذ سيصل عدد أيام التصوير إلى 55 يوماً، وهو رقم قياسي في تاريخ الدراما العربية لـ 10 حلقات، بالإضافة إلى أنّه صناعة لبنانية خالصة، ما عدا بعض المتممّات الفنية.
ربّما هذا سعي نحو استفراد لبناني صريح بالمشهد الدرامي، بالنسبة لمنطقة بلاد الشام، خاصة أنّ لبنان يملك أقوى المنتجين في الوطن العربي، من بينهم صادق الصبّاح (صبّاح إخوان) وجمال سنّان (إيغل فيلمز ) إلى جانب رائد سنّان (فالكون فيلمز) الذي سلك مؤخّراً طريق الدراما التفلزيونية، مع مجموعة من المنتجين الذين يفتتحون لأنفسهم منافذ واضحة مع أهم القنوات العربية. هذا ما يعتبره البعض تهديد صريح للدراما السورية الخالصة، والتي لا تملك حتى اليوم منتجين على هذه السوية من العلاقات الطيبة بسوق العرض، كما أنّها لم تستطع أن تؤسس منصة واحدة قادرة على مواكبة السوق الحالية، ومجاراة موضة العشاريات وصياغة دراما رقمية تعرض على منصات بعدد حلقات قليلة قد تحتاج مشاهدتها إلى رسوم اشتراك.
اللافت أنّ منصة مثل choice، تعتبر براءة اختراع سورية أسسها الكاتب محمود إدريس، وأنجز فيها مسلسل كمثال يشرح فيه لرؤوس الأموال كيفية عمل هذه المنصة، وطريقة صناعة دراما مختلفة عليها! لكن حتى هذه اللحظة لم تستطع أن تنطلق، بسبب غياب المال! علماً بأنّها منصة تقدّم دراما تنسجم مع منطق اللعب، وهو عامود أساسي بفن التمثيل، عساها تقدّم دراما تترك للمشاهد فرصة خيار الحلول الحدثية، وإلى أين ستتجه الشخصيات من خلال خيارات مفتوحة على هذه المنصة!