علي العزيروهذا رجل يموت كأشجار الصنوبر واقفاً.. وهذا صوت مضياف يصمت بغتة بعدما كانت بيوت العتابا ترحّب في حناياه بمضاعفات الأوف الشجية.. وهذا مروان محفوظ الذي لن يكون بوسع الذاكرة أن تستعيده إلّا باسماً، يحتضن سهل البقاع من المريجات، تلك الشرفة المطلة أبداً على سوالف الدهشة..
في زمن الموت الكثير، ينخرط مروان في مواكب الرحيل، يستجمع حكايا العمر المتألّق بكثير من الفرح. يفتح ستائر الذكرى على بيادر من الخير الوافر. هنا أغنية صارت وشماً على وجنة الزمن. هنا مشهد مسرحي لا يكفّ عن الصخب الجميل.. وهنا.. هنا بسمة واثقة أثمرت أجيالاً من الضحكات الهادرة في أفئدة الليالي الموحشة.
رحل مروان الواثق دوماً من رحَابة القادم.. المتحالف أبداً مع أمل مقيم.. الوفيّ فطرةً لبراءة الفرح تختال على متن ثغر متوهّج..
ليس فناناً عادياً من تغصّ القلوب برحيله اليوم.. ليس مجرّد طالب ناجح في معهد الموسيقى.. وليس أحد أولئك الذين تسلّلت إلى جيناتهم مورثات الموهبة. هو صديق مخلص لابتسامة مزمنة. هو رفيق أمين لفرح عصي. وهو عاشق وفيّ لأمسيات الصفاء النادر.
عام 1942، شهدت بلدة المريجات البقاعية ولادة أنطوان محفوظ في أحد منازلها المتواضعة. كان والده دركياً ينظّم الزجل ويُنشده بصوت جبلي متين. لم يلبث أنطوان أن انتقل إلى بيروت ليدرس الموسيقى وأصول الغناء حيث أمكنه أن يتتلمذ على أيدي أساتذة كبار هم سليم الحلو وجورج فرح وتوفيق الباشا وعبد الغني شعبان.
مشاركة واحدة له في برنامج «الفن هوايتي» الذي كان يقدّمه رشاد البيبي على شاشة تلفزيون لبنان كانت كافيةً لجذب أنظار الرحابنة نحوه. سرعان ما استدعوه ليشارك في مسرحية «دواليب الهوا» مع صباح ونصري شمس الدين، في قلعة بعلبك، عام 1965، ثم كانت له مشاركة في مهرجانات بيت الدين، شارك أيضاً في فيلم «سفر برلك» بالغناء فقط، حيث بلغ اعتداد الرحابنة بصوت مروان محفوظ أن جعلوه يُنشد بيت العتابا المشهور: «عيني ما تشوف النوم يا ديب» لثلاث مرات.
تعرّف بعدها إلى زياد الرحباني ليكون له مكان في أولى مسرحياته «سهرية». سيكون متعذّراً على من أصغى إلى تلك المباراة المذهلة في الأداء الصوتي بين مروان والراحل جوزف صقر في تلك المسرحية أن يدهش لأمر آخر.
غنّى مروان محفوظ في مسرحية «سهرية» بعض أغانيه التي اخترقت ذائقة المتابعين: «يا سيف عالأعدا طايل» و«خايف كون عشقتك وحبيتك».
في مسرحية «الشخص»، قدم أغنية دبكة «بالنجمة وعدتك ونسيت» من ألحان الياس الرحباني. وأسند إليه الرحابنة دور «خيّال الكروم» في مسرحية «جبال الصوان». ثم تعدّدت أدواره في المسرح الرحباني.
غنى من ألحان زياد الرحباني «يا حلو يا ست الدار»، «لو ما حبيتك يوما»، وكانت الأغنية الفيروزية المبهرة «سألوني الناس عنك يا حبيبي» مخصصة له، لكن إصابة عاصي الرحباني بجلطة دماغية جعل فيروز ومنصور الرحباني يرغبان بها. حرص زياد على سؤال مروان محفوظ ما إذا كان يوافق على التنازل عنها فلم يتردّد الراحل بالموافقة.
غنى مروان محفوظ من ألحان وديع الصافي: «يا حلوة العينين» و«يام الشال الليموني» و«حكيولي الحكاية». كما شاركته ملكة جمال الكون جورجينا رزق مسرحية «نوار» التي وضع ألحان أغنياتها روميو لحود.
رحل مروان محفوظ محتفظاً بكامل ألقه، ظلّ حتى لحظات حياته الأخيرة متمسّكاً بألق الإبداع لا يحيد عنه.. يروي الشاعر السوري اياد أحوش، وهو مقيم في كندا، أنه كتب له أغنيتين، كانتا جاهزتين للتسجيل بعدما لحّنهما الملحن زاهر عساف.. واحدة عن الأخت، وكان محفوظ قد فقد شقيقته وتأثّر لرحيلها.. وأخرى بعنوان «سيدة الشام» مطلعها:
«من الحزن الجواتن بيقولوا نسيتينا
وبس يعلو صواتن الجرحة بتبكينا
وانتي معنا معنا وقلبك عميسمعنا
وساعة ما من نام يا سيدة الشام
انتي اللي بتغطينا..
وبيقولوا نسيتينا»