عند التاسعة والنصف من مساء اليوم بتوقيت بيروت، يقدّم جان بول غوتييه آخر عروضه ضمن أسبوع الأزياء الراقية في باريس لربيع وصيف 2020. هكذا، بحضور عدد هائل من المشاهير، يحتفل مصمّم الأزياء الفرنسي بيوبيله الذهبي، ويختتم مشواراً مهنياً حافلاً بدأه في سنّ المراهقة.قبل أيام، فجّر المصمّم البالغ 67 عاماً مفاجأة بإعلانه هذا النبأ عبر حساباته المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي. في مقطع فيديو مقتضب قال: «هذا العرض الذي سيحتفل بمرور 50 عاماً على بدء مسيرتي في مجال التصميم سيكون أيضاً الأخير بالنسبة لي»، مطمئناً إلى أنّ الأمر لن يعني نهاية خط تصاميمه الفاخرة، إذ سيبقى مستمراً بـ «مفهوم جديد». وأوضح غوتييه أنّ الفترة المقبلة ستحمل تفاصيل إضافية حول المرحلة الجديدة.

أحضر إلى منصات العرض الإبداع، الجدل، الذهول والجرأة


ألبس الرجال التنانير وحثّهم على اعتمادها

على مدى نصف قرن، هزّ جان بول عالم صناعة الموضة. أحضر إلى منصات العرض، الإبداع، والجدل وأجواء الدراما والمسرح، بالإضافة إلى الذهول والجرأة التي لا تعرف حدوداً. اشتهر بأنّه «الولد الشقي» للموضة الفرنسيّة وأحد وجوهها الأيقونيّة، كما لُقّب بـ «ملك الهوت كوتور». بلغ أوج شهرته في ثمانينيات القرن الماضي يوم كان الفساد مستشرياً في هذا الميدان، ووقّع إطلالات لائحة طويلة من نجمات الفن والترفيه، أبرزهن: كاترين دونوف، مادونا، ريانا، ليدي غاغا، نيكول كيدمان، نعومي واتس، ماريون كوتيار، كايلي مينوغ وغيرهن.
البداية كانت في سنّ الثالثة عشرة، ألبس والدته وجدّته، قبل أن ينضمّ في الثامنة عشرة إلى فريق عمل المصمم بيار كاردان، ليتنقّل بعدها في مشاغل أشهر المصممين العالميين، أمثال جاك إيستيريل (1917 ــ 1974) وجان باتو (1880 ــ 1936).
بالنسبة إلى الرجل الذي خسر شريكه في العمل والحياة فرانسيس مونوج عام 1990 لأسباب متعلقة بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، كانت لـ 1976 أهمية كبرى في حياته. فقد شهدت هذه السنة ولادة أولى مجموعاته الخاصة، إلا أنّ دار الأزياء لم تبصر النور قبل 1982. خلال تلك الفترة، اتّسمت إبداعاته بالابتعاد عن كل ما هو سائد وتقليدي، فيما استندت العديد من تشكيلاته إلى أزياء الشارع، مع التركيز على الثقافة الشعبية، في حين أنّ مجموعات أخرى، خصوصاً الأزياء الراقية، كانت في غاية الرسمية لكن طبعاً من دون أن تخلو من الغرابة والمرح.
على الرغم من أنّ معظم الناس وجدوا أنّ تصاميمه «منحرفة» في ذلك الوقت، إلا أنّ محرّري الموضة، لا سيّما ميلكا تريانتون (مجلة «إيل») وكلود برويه وكاترين لاردور (من «ماري كلير»)، أُعجبوا بقطعه وإتقانه للخياطة. في 1985، كان الموعد مع التنانير الرجالية التي شجّع غوتييه على اعتمادها. لم يكن هذا مصدر الصدمة الوحيد بالنسبة إلى العاملين والمهتمين بهذا المجال، كون جان بول حرص على التعاون مع نماذج غير تقليدية من عارضي وعارضات الأزياء، أمثال الرجال المتقدمين في العمر، والنساء الممتلئات، إلى جانت اللواتي تكسو أجسادهن الثقوب والوشوم، ناهيك بالاشتغال الحثيث على كسر الصور النمطية، ومحو الحواجز بين الأدوار التقليدية للجنسين على الـ Cat Walk.

وقّع إطلالات متفرّدة لمادونا في جولتها الفنية Blond Ambition


كسر صوراً نمطية عدّة واستعان بعارضات ممتلئات

وكالعادة، في مقابل النقد الكبير الذي تعرّض له بسبب ذلك، أكسبه الأمر شعبية عارمة في وقت لم تكن فيه التعددية والتنوّع ضمن «ترندات» العصر!
صحيح أنّ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، شهدت خسائر فادحة على المستوى الشخصي، غير أنّها لم تكبح جماح غوتييه مهنياً. وقّع إطلالات متفرّدة لـ «ملكة البوب» مادونا في جولتها الفنية Blond Ambition، ما جذب إليه انتباهاً من نوع آخر في عالم الموضة. وجميعنا نذكر حمّالة الصدر المخروطية (cone bra) التي شكّلت علامة فارقة في أرشيف الموضة، بعدما ارتدتها صاحبة أغنية Rebel Heart في هذه الجولة بين نيسان (أبريل) وآب (أغسطس) 1990، فضلاً عن نقشة الخطوط الشهيرة التي لم تستطع حتى «باربي» مقاومتها!
خوض غمار ابتكار العطور بدأ في 1991، ليشارك جان بول بعد عامين في تقديم برنامج Eurotrash على القناة الرابعة البريطانية، وينضم في 1996 إلى روزنامة الخياطة الراقية الفرنسية. للسينما حصّة وافرة أيضاً عن طريق الاهتمام بأزياء مروحة واسعة من الأفلام، نذكر منها: «كيكا» (إخراج بيدرو ألمودوفار ــ 1993)، The City of Lost Children (إخراج جان بيار جونيه ومارك كارو ــ 1995) وThe Fifth Element (إخراج لوك بوسون ــ 1997). ومن ثم كان الولوج إلى مجال الأكسسوارات في مستهلّ الألفية الجديدة. بين عامي 2003 و2010، شغل جان بول غوتييه منصب المدير الإبداعي لدار «هيرميس»، خلفاً للبلجيكي مارتان مارغييلا. وبحلول 2015، توقّف عن تصميم الألبسة الجاهزة وصبّ تركيزه على الـ «هوت كوتور». على الرغم من الاعتزال، اسم جان بول غوتييه لن يغيب كلياً عن عالم الابتكار. فقد وعد أن تعود دار أزيائه بمشروع جديد يُشرف عليه شخصياً. في هذا السياق، يرجّح العارفون بطباع غوتييه وبعض «المصادر المطلعة» أنّه من المحتمل أن يسجّل عودة بإطلاق خطّ لتصميم الأثاث وأكسسوارات المنازل والمساحات الداخلية، على غرار ما حصل مع المصمم الياباني المخضرم كنزو تاكادا (80 عاماً)، من دون أن يُحسم أمر خط العطور بعد.
محا الحواجز بين الأدوار التقليدية للجنسين على الـ Cat Walk


المصمّم «الألمعي»، نظّم في 2018 عرض كباريه مستوحى إلى حدّ ما من قصة حياته، بعنوان Fashion Freak Show، على مسرح «فولي بيرجير» في العاصمة الفرنسية. وفي السنة نفسها، انضم جان بول غوتييه إلى بيوت أزياء شهيرة، بينها «غوتشي» و«فيرساتشي» و«غاليانو» و«أرماني»، بإعلانه التخلّي عن استخدام الفراء والجلود الطبيعية في مجموعاته، بعد سنوات من الاحتجاجات التي تخللها طرد أحد أعضاء جمعية «بيتا» المعنية بالدفاع عن الحيوانات من عرض في أسبوع الموضة الباريسي في عام 2002، والاستيلاء على متجر جان بول في «مدينة الأنوار» في 2006، بقيادة مؤسسة «بيتا» إنغريد نيوكيرك.
أما 2019، فشهدت تعاوناً غير مألوف بين غوتييه وماركة ملابس الشارع النيويوركية «سوبريم»، ضمّت قطعاً عدّة منها ما حمل شعار F*** Racism (تباً للعنصرية)، في محاكاة للـ «تي شيرتات» ذائعة الصيت التي كشف عنها جان بول في التسعينيات.