بوفاة السيد سيمون أسمر، تُطْوى مرحلة سوداء من تاريخ الفن في لبنان والعالم العربي. مرحلة جرت هندستها محلياً في بدايات برنامج اسمه «استديو الفن» بدأ بتخطيط ظاهرة البراءة لغاية في نفس يعقوب وبتقليد مشوّه يتوسل صناعة النجم التي قد تناسب المجتمعات الغربية. أقول «قد» مستدركاً، ولستُ مُؤكِداً إلى أي مدى تناسبه، ولكنها حتماً لا تناسب فنون المجتمعات الشرقية. بدأ إذن الراحل سيمون بدعته بذرائع تتوخى الربح المادي الصرف وحب السيطرة بما يجمع السلطة الفنية وسلطة الإعلام التجاري الصرف لتتحكم الثانية بالأولى بلا قيود أكاديمية كافية لتضبطه سوى شمّاعة كل ما يختبئ بمقولة «الجمهور عايز كده». تلك الشمّاعة الممتلئة ببراءة ظاهرية تدّعي ملامسة الواقع، لكنها لا تتوخّى بهذا الرياء إلا الربح الذي يستبطن ضحالة فنية واضحة لا تخفَى على اللبيب. ضحالة تنطوي أحياناً على نوايا سلبية مبيتة بتلك السيطرة، ساهم فيها في البدء وللأسف فنانون كبار (وليد غلمية، ناصيف وكثيرون غيرهم). ثم ما لبث أن انفض الفنانون الحقيقيون عنه عندما لمسوا أن في النتيجة النهائية لهذه الظاهرة، لن يكون إلا كوارث لا علاقة لها بسمو الفن الحقيقي ونقاء مقاصده ومبرراته، إلا بما يفضي إليه جمع المال بلا تلك الروادع الفنية. روادع تغيب دائماً بقوة قيم البيزنس الإعلامي التي لا تلتفت لبقاء الفن أصيلاً متطوراً وحضارياً في قوته التعبيرية، بل بالعكس تتنكر لانسجامه برفعة الوعي الإنساني لاستمرارية انعكاس تلك القيم السامية جمالياً على حياة المجتمع، لتطال إعادة فهمها وتدويرها مع كل جيل بما يسمو مع قِيمه وأصواته الداخلية الخاصة بعصره بما يقع فوق الرخص والإسفاف ومحاربة التزوير والهبوط. تتخلى إذن قيم تلك الصناعة المشوهة للنجم بمفهوم سيمون أسمر عن الحد الأدنى من الضروريات الأكاديمية، وإن استعارت أحياناً بعضاً من عناصر الأصالة المستعملة بشكل سيئ لتخفي نهم الرساميل التي توظفها مجموعة (لبنانية عربية خليجية نفطية) محددة تقف خلفها بإدارة أشخاص وأمراء كان سيمون أسمر النموذج الأبرز الذي تمّ وسمه لبنانياً كأيقونة عربية وخليجية فاضحة تسعى لتسويق الفن الممسوك بمؤسسته الإعلامية العاملة بقيم المال ورأس المال الذي أدّى في النهاية ـ شئنا أم أبينا ـ للانحدار الفني إلى مستويات خفيفة هشّة قد تعيش لأيام أو ساعات، وتختفي فاضحةً في مقاصدها واتجاهاتها درجة لا تُطاق من السماجة والإسفاف في ملاحقة الغرائز وتقديمها معلّبة كنماذج لسلع قادرة على إفساد الذوق وضرب الحصانة الانفعالية لأذن المواطن العربي وتسطيحها.

أما عن صحة كونها، وهي في أداء مهمة الربح السريع تلك، تسعى بقصد أو بدون قصد لتتعمّد تصفية منهجية ومركّزة لمنجزات الحياة الثقافية والفكرية الفنية الحقيقية الممتدة من نهايات النصف الثاني للقرن الماضي مروراً ببداية الحرب الأهلية اللبنانية التي خلخلت بنيان المجتمع والإنجازات الفنية للنهضة اللبنانية العربية، فالسؤال يبقى مفتوحاً بين المراقبين والفنانين الجادين، حول ما إذا كانت تلك عملية مقصودة تدخل ضمن نظرية المؤامرة التي تابعتها الأرصدة الخليجية للمال النفطي بتأسيس وسائل فنية مشبوة كـ «روتانا» وأخواتها مثلاً... تلك الوسائل التي يبرر بعضهم وجودها بأهداف سياسية فنية أنيطت بها تصفية ممنهجة لمعظم منجزات روافد وعناوين الفنون من موسيقى وغناء ومسرح وشعر ورقص ومهرجانات وفنون تشكيلية، وصلت ذروة شعلتها الأولى في لبنان عبر إنجازات فنانين خلاقين كبار. كانت عصبة الموسيقيين اللبنانيين الخمسة الكبار السبّاقين الأوائل الذين أسّسوا لها نظرياً وعملياً، لتنطلق شعلتها على أيديهم وفكرهم المتنور وتتعمم وتنتقل مبتكرة منهم إلى فنانين آخرين تبنّوها وعملوا فتياً بهديها. لم يمر عليها الكثير من السنوات حتى بدأت تأتي أوكُلها لتنشر كنهضة وطنية صافية يمكن القول إنّ الأخوين رحباني (عاصي ومنصور) تزعماها بنوع وكم إنجازاتهما المتفوّقة بزخم استثنائي في تاريخ الفن اللبناني العربي الذي ميّز النصف الثاني من القرن الماضي... أصبحا بالتالي العنوان الفني الأبرز للتقدم والرقي الحضاري العربي الذي لا يجادل اثنان في مستواه ورِفعته ومبرراته، خصوصاً أنّهما جمعا في إنجازاتهما تنوعاً واسعاً لكل فروع الفنون واصلينها مع غيرهم (زكي ناصيف، توفيق الباشا، توفيق سكر، وجيل من بعدهم من الموسيقيين). وصلاها إذن ببدايات التأليف الموسيقي المترع بروح الابتكار والتحديث (بشروط الأصالة) الذي عرفا كيف يدخلانه بشجاعة تجمع الموهبة بالقدرة والكفاءة والحرفية التي طوت داخلها كل مصادر وينابيع عيون التراث والفولكلور اللبناني السوري الجبلي الغنائي، ليربطاه بالكنسي بدءاً من الماروني فالبيزنطي فالسرياني، ثم بكل أنواع الشعر الراقي تلحيناً وتأليفاً بشكل غير مسبوق سواء كان شعرهما أو شعر أدباء عظام كسعيد عقل، وعمر أبو ريشة، وميشال طراد وغيرهم... ثم ما لبثا أن جمعا كل هذه الفنون في بوتقة متآلفة بفن الأوبريت والمسرح الغنائي والبرامج الإبداعية الراقية للإذاعة والتلفزيون والسينما! رغم أنّ الإنجاز الأبرز لهما سيبقى متمثلاً بإحياء فن المسرح الغنائي وتطويره ليصل إلى أعلى وأكمل وأجمل ما في الصلابة الفنية من شفافية وكمال! يصعب جداً في عجالة أن نختصر أهمية تلك النهضة العظيمة الخالدة التي جرى ضربها بمنهجية وضراوة لينتشر بعدها ظلام فني لا يراه ويعرف ثقله وضراوته إلا من عرف النور الذي قبله. فهل يمكن القول إنّها مؤامرة أم أنّها بقيت مع سيمون لأسمر بالنوايا تحت عنوان الربح والكسب المادي على حساب الفن النظيف وبلا قيود. نحن هنا لسنا في صدد هكذا بحث ولا يعنينا ذلك، خصوصاً الآن بعد موت الرجل. لكن ما يعنينا في شراسة تلك الموجة وهي تدجّن الفن بالمال هو: إلى متى ستبقى ارتداداتها بعد رحيل الرجل؟ لا يعنينا القول إنه إذا كانت ممنهجة، فإن ارتدادات سيرها بقوة رأس المال الإعلامي الخليجي النفطي سيبقى حتماً تابعاً ومرتهناً لمؤسساتها الهابطة كـ «روتانا» وأخواتها التي لن تسعى أبداً لتطوير الفن بأيّ شكل لا يتوخى الربح السريع بلا روادع، ما أدى إلى تثبيت فكر الانحدار والتراجع الذي بدأ مع بدايات الحرب وما زالت معالمه مستمرة بمباركة الفساد السياسي والإعلامي والثقافي الذي يضرب البلاد والعباد.
تخلت قيم تلك الصناعة المشوهة للنجم بمفهوم سيمون أسمر عن الحد الأدنى من الضروريات الأكاديمية


بوفاة السيد سيمون أسمر، تقف وسائل الإعلام الفني النظيفة على قلتها ومعها الفنانون الحقيقيون أمام تركة ثقيلة لا يجب أن تستمر بقيم المال فقط إذا أردنا أن تعود إلى طبيعتها الفكرية الثقافية ومسارها الفني، خصوصاً أنّ النماذج والمصادر والينابيع الحقيقية للإبداع ما زالت موجودة في الذاكرة الجمعية للناس وإن كان التعتيم عليها مستمراً. وقد يكفي كبداية أن يُصار إلى إعادة تفعيلها وفرض إحياء وتفعيل لجان للرقابة على جودة ونوعية أي عمل فني يمرّ على مؤسسات الإعلام التي عمّمت تلك الظواهر والنماذج السلبية الهابطة كسيمون أسمر ومؤسسته التي تسببت بكل هذا الكم الهائل والمريع من الانحدار الذي لطالما وصل معهم إلى الشخصي وهو يربط أشباه الفنانين المزيفين به، لنصل إلى ما وصلنا إليه. بالطبع ليس سيمون أسمر وحده المسؤول عن خلق وتعميم كلّ هذه الكوارث، ولكنه كان عنوانها الأبرز. يكفي أن نتساءل مستغربين موقف بعض فناني اليوم وهم يقومون اليوم برثائه كأنه بطل قومي أو كأنه ولي نعمتهم. يكفي هذا لنعرف حجم الكارثة والضياع والخلط الذي وصلنا إليه، ومنهم للأسف أصدقاء لي عانوا من سلبياته وتحدياته لهم، لأنّهم لم يشاؤوا ربما الانحدار في ما كان يرسمه لهم من عقود عقدها هو لهم وذيّلها قانونياً بإمضاءاتهم ليدفعهم لممارسات فنية هابطة رفضوها بإباء! اللهم لا شماتة في الموت للأنه رحمة وحق ولا رغبة لأحد في التشفّي عبره أو عبر نهاية الرجل بعد سجنه. أبداً أبداً، ليس هذا ولا ذاك، ولكن أن يصل أمر التعمية ببعضنا إلى هذه الدرجة من العمى والتجاهل والخلط... فهو أمر غير مقبول أبداً، فنياً على الأقل حتى لا نتطرق إلى الأشياء والأحداث والقيم الأخرى! باختصار أقول لكل هؤلاء إنه لا سيمون أسمر ولا غيره يستطيع أن يخلق نجماً حقيقياً متعلماً مثقفاً ومبدعاً، فلا يدّعي أحد أنّه صنيعته لأنّ في هذا عيباً فاضحاً ومقداراً كبيراً من التخلف والقصور في فهم الصيرورة في عملية الفن، حيث لا أحد يصنع أحداً أبداً!
في النهاية، لا يصح إلا الصحيح ولا يدوم إلا الأفضل، عسى أن تضمحل مخلفات تلك التركة الثقيلة التي راكمها الرجل لتصبح إحدى سمات التخلف والعيوب الكبيرة التي سيبقى هو ومن بقي معه المسؤول الحقيقي عنها، كوصمة تراجع كبيرة وفاضحة في تاريخ تطور الفن اللبناني ـ العربي!