القاهرة | رحل صباح أمس الممثل والموسيقي المصري، عزت أبو عوف (1948 ــــ 2019) بعدما استسلم قلبه أمام الموت الذي ظل يغالبه طوال الأسابيع الثلاثة الماضية. لم يكن أبو عوف ممثلاً كبيراً، بالرغم من أنه ترك عشرات وعشرات الأعمال في السينما والتلفزيون، من بينها بعض الأدوار القليلة المتميزة. وهو ــــ قبل أن يعتزل الموسيقى ويحترف التمثيل ــــ لم يكن أيضاً موسيقياً أو مغنياً «كبيراً»، بالرغم من أنه أسّس، مع أخواته الأربع، واحدة من أوائل الفرق الموسيقية المصرية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. الفرقة التي حملت اسم «الفور أم»، وأنجزت عدداً كبيراً من الألبومات الغنائية في بداية الثمانينيات، لم يبق منها سوى قليل من الأغاني الخفيفة المرحة. وقد تولى الراحل رئاسة «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» لسنوات لم يحدث خلالها طفرة أو تغييراً استثنائياً في طبيعة المهرجان أو شكله.مع ذلك كله، كان عزت أبو عوف ناجحاً للغاية، كممثل وموسيقي ورئيس مهرجان، وأي شيء آخر عمل فيه. وهذا النجاح الدائم هو سرّ أبو عوف الاستثنائي الذي يصعب تحليله أو فهمه. لماذا كان النجاح حليفاً دائماً لأبي عوف؟ ربما لحضوره المبهج وشخصيته الجذابة وطبيعته البسيطة الصادقة... عناصر ضمنت له حب الناس والزملاء، حباً نادراً ما حظي به فنان آخر بهذا الشكل.
انتمى عزت أبو عوف إلى أسرة متوسطة من الطبقة التي صعدت عقب «ثورة يوليو» 1952. والده أحمد شفيق أبو عوف كان ضابط جيش من رجال الثورة، لكنّه مثل كثيرين منهم، كان يتمتع بالثقافة ويحبّ الفنون، وكان مؤرخاً موسيقياً معروفاً. ومثل كثيرين من رجال الثورة، حصل الأب على «فيلا» كبيرة في الزمالك كانت ملكاً لرجل الأعمال اليهودي المصري الإيطالي سولومون شيكوريل، صاحب محالّ الملابس الشهيرة التي تحمل هذا الاسم. قتل الرجل داخل الفيلا على يد عصابة من اللصوص في بداية الأربعينيات، فأغلقت الفيلا وصارت مثاراً للشائعات والقصص «القوطية»، قبل أن تؤول إلى النظام الحاكم الجديد مثل معظم ممتلكات وأراضي الأجانب والاقطاعيين عقب قيام الثورة.
في هذه «الفيلا» الواقعة في حيّ الزمالك العريق والراقي، انتقل أبو عوف الأب مع أسرته التي تشكلت بعد ذلك من الأخ الكبير عزت وأربع بنات تبدأ أسماؤهن جميعاً بحرف الميم هن: منى ومها ومنال ومرفت. كانت طفولتهم سعيدة مع أب يتّسم بالطيبة الشديدة وأم حكيمة ومستوى اقتصادي مقبول، بالرغم من «شبح» صاحب القصر الذي كان يظهر لهم بين الحين والآخر وفق الروايات العديدة المسجلة للأبناء الخمسة!
هل كانت قصص ظهور شبح شيكوريل حقيقية؟ أم هي بعض «الأساطير الحضرية» التي تعكس المخاوف ومشاعر الذنب التي أحاطت بسكان القصر الصغار الذين وجدوا أنفسهم في مكان غريب عن جذورهم؟
انتمى أبو عوف إلى أسرة سعيدة «ميسورة الحال» من الطبقة الوسطى التي شكلت الوعي وعبّرت عن مصر من الخمسينيات حتى السبعينيات، قبل أن تنهار تدريجاً مخليةً الساحة لصعود طبقة أخرى أكثر شراسة وأقل ثقافة.
جزء من حب الناس والزملاء لعزت أبو عوف، وأخواته، يعود إلى انتمائهم إلى هذه الطبقة المأسوف عليها، ويتغنى المصريون بفضائلها: الذوق والأناقة والثقافة والأخلاق والتحضر... صفات دائماً ما تحضر عندما يذكر اسم عزت أبو عوف.
التحق عزت بكلية الطب وتخرّج فيها بالفعل، لكنه ورث مع أخواته حب الموسيقى من أبيهم وتعلموا العزف والغناء. التحق في ما بعد بإحدى أوائل الفرق الموسيقية الشبابية التي ظهرت في مصر منذ منتصف السبعينيات: إنّها فرقة «بلاك كاتس» التي أسسها اسماعيل الحكيم، ابن الكاتب الكبير توفيق الحكيم. لكن بعد انتحار اسماعيل الحكيم الصادم، انهارت الفرقة، وبعد فترة شكّل أبو عوف فرقة جديدة مع أخواته هي «الفور ام».
حققت فرقة «الفور ام» نجاحاً كبيراً، وخاصة مع دخول التلفزيون الملوّن إلى مصر وبداية ظهور الفيديو كليب أو الأغاني المصورة. وقد اتسمت بحضور جذاب ومناسب لجمهور العائلات المصرية المحافظ: شاب وسيم وأربع فتيات جميلات، دلال وخفة دم، لكنهن لسن محترفات والأخ طبيب يهوى الفن. ببساطة هذه أسرة عادية تغني وتقضي وقتاً لطيفاً، مثل المشاهدين أنفسهم!
استمرت فرقة «الفور ام» لسنوات، ثم انهارت مثل كل الفرق الأخرى، وبقي منها عزت أبو عوف كموسيقي وممثل، والأخت مها كممثلة لعبت بعض الأدوار الجيدة واتسمت بحضور وجمال هادئ دائماً.
من خلال عمله الموسيقي، ساعد عزت أبو عوف في اكتشاف وتقديم عدد من المواهب الغنائية مثل محمد فؤاد. قصة أعيد تقديمها في فيلم «اسماعيلية رايح جاي» (1997)من خلال صاحبيها الحقيقيين، محمد فؤاد وأبو عوف. وهذه الطبيعة المتواضعة والمحبة للآخرين أسهمت في شعبيته داخل الوسط الفني، وحب زملائه له.
قدّم بعض الأدوار «الجادة» مثل دوره المتميز في فيلم«أسرار البنات»


ومع بداية التسعينيات، بدأ أبو عوف يشقّ طريقة التمثيلي على استحياء. ومع أنّه لم يقدم سوى بعض الأدوار الصغيرة في أفلام مثل «آيس كريم في جليم» (إخراج خيري بشارة وبطولة عمرو دياب ــــ 1992)، و«حرب الفراولة» (خيري بشارة ــــ 1994)، و«بخيت وعديلة» (إخراج نادر جلال وبطولة عادل امام ــــ 1995)، إلا أنه حقق نجاحاً وحضوراً كوميدياً مميزاً جعله «نجماً» لهذه النوعية من الأدوار. وكان من حين إلى آخر يقدم بعض الأدوار «الجادة» مثل دوره المتميز جداً في فيلم «أسرار البنات» (اخراج مجدي أحمد علي ــــ 2001).
ومن الطريف أن عزت أبو عوف واحد من بين عدة ممثلين مصريين اشتهروا بارتداء الشعر المستعار في معظم أعماله وفي حياته العادية، أمثال فريد شوقي وسمير صبري، لكنه كان يجد الشجاعة أحياناً، وخاصة في سنواته الأخيرة، لخلع الشعر المستعار والظهور بصلعته!
شارك أبو عوف في حوالى مئة فيلم سينمائي، وقدّم في التلفزيون والراديو أيضاً عدداً كبيراً من الأعمال يصل إلى المئة. إنتاج غزير جداً من ناحية الكم. وقد ظل يعمل رغم تدهور حالته الصحية لغاية وفاته، بل إنّه رحل قبل أن ينهي دوره في آخر أعماله. ورغم هذه الحياة الحافلة بالعمل الفني، وجد أبو عوف وقتاً وجهداً لتولي رئاسة «مهرجان القاهرة السينمائي» في إحدى أصعب فتراته. شهدت الدورات التي أقيمت تحت رئاسته، حضوراً كبيراً من الفنانين المصريين، وألقاً فقده المهرجان بعد تركه المنصب، مثلما فقد الفن المصري هذا الألق الذي كان يثيره بحضوره في أي عمل أو مكان يكون فيه.