غابت الموسيقى الكلاسيكية، بكل أشكالها، لموسمَين متتاليَين (2016 و2017 بسبب إلغاء أمسية «تريو فاندرر»)، ثم عادت بشقّها الكورالي الديني السنة الماضية لتنقذ الموقف العام، حيث غاب الكلاسيك عن جميع المهرجانات الأخرى. طبعاً الأمسية كانت غريبة، لأن العمل من النوع غير الملائم للجو الترفيهي والسياحي والاحتفالي لمهرجانات الصيف عموماً، إذ سمعنا الـ «ستابات ماتر»، وهو نص ديني نُواحي الأجواء، لحّنه العديد من المؤلفين الأوروبيين، من ضمنهم الإيطالي روسّيني الذي سمعنا نسخته بقيادة الأب توفيق معتوق، وبمشاركة مغنين و«أوركسترا راديو بوخارست لموسيقى الحُجرة». هذه السنة يتكرّر الحدث (بعلبك ـــ 26 تموز/ يوليو) في أكثر من جانب: أمسية إنشادية دينية، مؤلف إيطالي، «أوركسترا الإذاعة الرومانية لموسيقى الحُجرة» (هي نفسها «أوركسترا راديو بوخارست لموسيقى الحُجرة» على الأرجح)، مشاركة مغنين منفردين أجانب (من ضمنهم الميتزو دانييلا بارشيلونا التي شاركت السنة الماضية) وجوقة «الجامعة الأنطونية» والقيادة للأب توفيق معتوق. الفارق الأبرز يكمن في مستوى العمل هذه السنة. فإذا كان «ستابات ماتر» روسيني، على أهميته، من العناوين الثانوية في فئته، فـ «جنازة» مواطنه فيردي لا شك في أنها من فئة التحف الكبيرة. إنه بكل بساطة ثاني أشهر Requiem في تاريخ الموسيقى، بعد رائعة موزار التي رحل قبل إتمامها. في الواقع، لن نكرر ملاحظاتنا على اختيار عمل من هذا النوع في مهرجان سياحي، خاصةً أن «ركوييَم» فيردي يكتسب أهمية فنية عالية، ومن الجميل الاستماع إليه في أمسية حية، بصرف النظر عن الظروف المحيطة بالحدث عموماً.ما هو الـ«ركوييم»؟ أولاً، كثيرون يعرفون الاسم، المرتبط بعالم الموسيقى الكلاسيكية، ولا يعرفون معناه. هو أولاً، كنص كامل، القداس الجنائزي في الكنيسة الكاثوليكية. ثانياً، كلمة «ركوييم» هي عبارة لاتينية تعني «الراحة»، والعمل يأخذ اسمه من أول كلمة في أول جملة من النص الجنائزي، Requiem æternam dona eis, Domine، وتعني «الراحة الأبدية أعطهم يا رب (أو يا الله)».. ثالثاً، الجناز مقسّم إلى أجزاء عدة، أداؤها يكون إمّا جماعياً (الجوقة) إمّا فردياً (المغنون المنفردون وعددهم إجمالاً أربعة) إمّا الحالتين معاً.كتب فيردي هذا العمل تحيةً للأديب الإيطالي أليساندو مانزوني إثر رحيله. لكن في البداية، وإثر رحيل زميله ومواطنه روسّيني، اقترح أن ينجز قدّاساً تحيةً للراحل يشارك في تنفيذه 12 مؤلفاً، بالإضافة إليه، فوضع الـLibera me (الجزء الأخير من القداس) وتقرر تقديم العمل في الذكرى الأولى لرحيل المؤلف الشهير. لكن المشروع تعرّض للعرقلة، ولم يقدّم العمل أبداً حتى عام 1988 (بمبادرة من القائد هيلموت ريلينغ، عاشق باخ وسكوت جوبلن!). لاحقاً، على أثر رحيل الأديب الإيطالي أليساندو مانزوني، قرر فيردي إنجاز قداس جنائزي تكريماً له، فكان الـ«ركوييم» الذي نعرفه اليوم، الذي عاد واستخدم فيه الـLibera me الذي كان قد وضعه لقداس روسيني. إنه من أهم أعمال فيردي، إلى جانب إسهامه في عالم الأوبرا، ونال شهرته العالمية بفضل الـDies irae (تعني «يوم الغضب») الذي يُستخدم بطاقةَ هوية للعمل عموماً، وهو جزء شديد الرهبة، يمثّل بشكل مرعب «الغضب» بالمعنى الإلهي للكلمة، مع العلم أن اللحن الأساسي لهذا الجزء موجود أساساً في الـLibera me، أي الجزء الأخير من حيث تقطيع القداس الجنائزي، لكنه الأول من حيث تاريخ التأليف كما أسلفنا.
أربعة مغنين منفردين (سوبرانو، ميتزو-سوبرانو، تينور وباص) وجوقة وأوركسترا سيؤدون هذا العمل الضخم (مدة تنفيذه بين 80 و90 دقيقة تقريباً) بقيادة الأب توفيق معتوق. بالتأكيد إنها تجربة جميلة، لكن الوحش الروسي تيودور كورنتسِس قدّم، قبل أسابيع، هذا العمل في الكنيسة التي شهدت أداءه للمرة الأولى بقيادة فيردي، وبثّته قناة MEZZO مباشرةً على الهواء. ما نتمناه، أن نستطيع محو الصوت والصورة الباقيَين في ذاكرتنا من هذه النسخة قبل وصول موعد الأمسية!