ككرة الثلج، يضيق الخناق أكثر على المهرجانات الفنية اللبنانية، في ظلّ المشهدية غير المتوازنة بين ما يفرض على هذه المهرجانات، من ضرائب تزيد سنوياً، وبين الدعم الخجول المقدّم من الدولة اللبنانية. دعم أضحى اليوم يتوزع على عدد كبير من المهرجانات، إذ أسهم العدد المطّرد لها في تقليص حصص البقية، وبالتالي دخولها أزمة مالية جديدة. يضاف إلى ذلك تطبيق نظام الضرائب لصالح «صندوق التعاضد الموحّد للفنانين»، بنسبة تراوح بين 36 و40 % (بطاقات وعقود فنانين أجانب ومصاريفهم)، إلى جانب الضريبة على القيمة المضافة (TVA) التي أضحت اليوم 11%، ونسبة 3.5 تذهب لصالح «جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى «ساسيم»، و5% الى البلديات، وضرائب أخرى متفرقة من ضمنها الضريبة المفروضة من قبل وزارة المالية على الأجانب غير المقيمين (7%). أعباء مالية ضخمة، يتكبّدها كل عام، منظمو هذه المهرجانات، باتت تهدّد استمراريتها، وشاهدنا انسحاب هذا التأثير على البرمجة التي تضعضعت في بعض الأماكن.
«بعلبك» ترزح تحت الأعباء المالية...

الصرخة باتت موحدّة اليوم، لا سيّما من قبل كبريات المهرجانات المحلية للحدّ من هذه الأزمة رغم الجهود المبذولة من قبل المنظمين، ومن ضمنها تقديم طلب الى وزارة الشؤون الاجتماعية من قبل هذه المهرجانات (جبيل، البترون، بيت الدين، ذوق مكايل، صور، بعلبك...)، يتضمن إعفاءها من جزء من الضرائب، بما أن هذه المهرجانات تندرج ضمن الجمعيات التي لا تبغي الربح. في الجولة التي قامت بها «الأخبار»، على منظمي/ ات المهرجانات اللبنانية، يتبين بوضوح تقاسم هؤلاء للهمّ نفسه، وابتكارهم طرقاً مختلفة، بغية إرساء التوازن بين النوعية المقدمة، وبين الكلفة العالية. أما مطلبهم الأوحد الى الأوساط المعنية، فهي تصحيح الخلل، وتخفيف العبء عن كواهلهم، وهذا لن يحصل سوى بتشريع قانون جديد، يلغي الوضع السائد حالياً.
لعلّ «مهرجانات بيت الدين الدولية» من الأكثر الفعاليات تأثراً بالأعباء المالية المفروضة. كل عام، تدق ناقوس الخطر، وتنذر بأن مهرجانها سيكون الأخير، لكنها تعود لتكمل هذا الطريق الشائك. لينا تنير من اللجنة التنفيذية للمهرجانات، تفنّد لنا كيفية توزّع الضرائب على كاهل المهرجان، وكيف أن الأخير وضع في مواجهة مع الفنانين، عبر قانون «صندوق التعاضد الموحد»، في ظل ضغوط أخرى تمارس من قبل البنوك، في تسهيل الاستدانة. وفق تنير، فإنّ هذه الديون تضاعفت إلى مئات آلاف الدولارات مع فوائدها في ظل غياب قرار واضح لوزارة السياحة في هذا الصدد، وتأخر المساهمات المالية التي تخصصها الدولة للمهرجانات. أضف إلى ذلك تعاطي «الأمن العام»، بطريقة أقرب الى الابتزاز، بعدم تسهيل تأشيرات الدخول للفنانين الأجانب، في حال لم يسدّد منظمو المهرجان مستحقاتهم من الضرائب، وهم مجبرون على تسديدها تحت سوط الغرامات. لعلّ زياد الرحباني الذي يعود الى الاضواء عبر بوابة «بيت الدين» في حفلتين (12 و13 تموز)، يعطي دفعاً للمهرجان، إلى جانب الموعد السنوي مع كاظم الساهر (27 و28 تموز)، فيما تشدد تنير على استقطاب المهرجان أحدث العروض من سيرك وباليه، وجلب كل ما يعجز اللبناني عن مشاهدته في الخارج.
«مهرجان ذوق مكايل» زاد هذا العام عدد الحفلات إلى أربع


اسم آخر من أعرق المهرجانات «بعلبك الدولية» يرزح تحت الأعباء المالية نفسها. رئيسة «لجنة مهرجانات بعلبك الدولية»، نايلة دو فريج، تؤكد تأثير هذه الأعباء على البرمجة، لكنها تشير إلى حرص القائمين على المهرجان على المحافظة على المستوى العالي عينه. تحتفي «مهرجانات بعلبك»، هذا العام بمرور 62 عاماً على تأسيسها، وتحرص - رغم الصعوبات المادية الثقيلة- على المحافظة على اسم المهرجان «ورسالته»، وحركته، عبر الموازنة بين «المال الموجود» وبين الحفلات. تلفت دو فريج هنا الى أهمية خطوة وزير السياحة أواديس كدنيان في تصنيف المهرجانات، وإعطائها التمويل بحسب التصنيف بين جديدة وأخرى عريقة، لا سيما تلك التي تقام في أماكن أثرية كصور وبعلبك وجبيل. من ناحية أخرى، وضمن عمل ميداني امتد لعامين، تسعى لجنة «بعلبك الدولية»، الى تقريب الأواصر بينها وبين أهالي بعلبك، ضمن سلسلة من الاجتماعات والدعوات المتبادلة، وبالتالي توطيد علاقة أهل المدينة بالمهرجان العريق. ومع إحياء سلسلة حفلات تضم الفنانين/ات جاهدة وهبه والعازف العالمي إيلي معلوف (17 آب)، مي فاروق ومروة ناجي (بعلبك تتذكر أم كلثوم ـ 20 تموز)، وجورج خباز (10 و11 آب) في «معبد باخوس»، ينتظر أن تلقى «بعلبك الدولية»، زخماً إضافياً، وتطال برمجتها هذا العام أذواقاً مختلفة تبعاً لدو فريج.

«أعياد بيروت» يركز على العنصر المحلي، و«لعبة ذكية» قامت بها «مهرجانات البترون»


في حديثه مع «الأخبار»، يرفض المدير الفني لـ «مهرجانات بيبلوس الدولية» ناجي باز أن يهبط المهرجان المذكور في مستوى الفرق الفنية المستضافة حتى في ظل الأزمة المالية. لذا لجأ القائمون هناك، الى «تخفيف عدد الحفلات من دون أن يؤثر ذلك على نوعيتها. في السنوات الماضية، كان عدد السهرات في «بيبلوس» يراوح بين 6 و7، فيما خفض اليوم الى خمس حفلات، بسبب الضائقة المادية. يشرح باز نقطة إضافية مهمة، تزيد الأعباء على منظمي المهرجانات. تتمثل هذه النقطة في «تركيز الفنان، لا سيّما الأجنبي، على أن تكون الحفلات التي يقيمها ذات مردود كبير، لا سيما بعد إقفال باب إفادته من سوق الأسطوانات الذي تحول الى رقمي، وبالتالي يضع الفنان اليوم جهده في الحفلات، حارصاً على أن تؤمن له نسبة عالية من مدخوله، مما يزيد حجم الأعباء المالية على المنظمين. ويلحظ باز زيادة تسعير الحفلات الذي ارتفع خلال السنوات الخمس الماضية. يضاف اليه، الدعم الرسمي الذي تلقاه بعض المهرجانات على «أساس سياسي». هنا، يسلط الضوء على هذه النقطة، وغياب المعايير، لا سيما مع طفرة عدد المهرجانات الذي «قلّص حجم الدعم للمهرجانات الكبيرة» على حدّ تعبير باز.

... و«بيت الدين» أيضاً بين الأكثر ضرراً

ومع تقليص عدد الحفلات في «بيبلوس» لصالح الحفاظ على النوعية المقدمة، تختلف برمجة «مهرجانات البترون الدولية» عن غيرها. كنوع من مقاومة الأوضاع المتردية، لجأت «البترون» الى إقامة سلسلة أنشطة رياضية وفنية ومتفرقة، لاستقطاب شرائح عمرية مختلفة، كما يشرح لنا رئيس لجنة المهرجانات هناك، سايد فياض. يرى الأخير أنه في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، يكون التعويل على الشركات الخاصة ورعايتها للمهرجان، معتبراً أنّ ما تقدمه الدولة يعدّ «مساهمة مقبولة». في المقابل، يلحظ فياض أنّه حتى الفنانين اللبنانيين رفعوا أسعار حفلاتهم، إذا ما وضعنا الأجانب على حدة. وهذا الأمر يثقل كاهل المنظمين. يعدّد لنا ما سماه «لعبة ذكية» من قبل «مهرجانات البترون» عبر تنظيم أنشطة متفرقة تستهدف شرائح اجتماعية وعمرية مختلفة من «مهرجان الأفلام القصيرة المتوسطية» (بين 6 و9 ايلول) الذي يستهدف مخرجين وممثلين، الى جانب «مهرجان النبيذ والبيرة والمأكولات البحرية» (8 تموز)، في السوق القديم الأثري، وتنظيم سباق لنحو ألف دراجة هوائية (1 تموز)، وإقامة جولة حول المواقع الأثرية في البترون، واختتام هذا النهار بحفلة موسيقية، إلى جانب سباق بالألواح الشراعية من قبرص الى البترون (بين 16 و25 تموز)، إلى جانب أمسية عازف الترومبيت اللبناني ابراهيم معلوف (11 آب)
خلطة النشاطات الفنية والرياضية والثقافية، التي تحتفي بها البترون هذا الصيف، يقابلها، تركيز مهرجان «أعياد بيروت» على العامل المحلي كما كل عام. المهرجان الذي يقام على واجهة بيروت البحرية، ويضم خمس حفلات (وائل كفوري، إليسا، ناصيف زيتون، نانسي عجرم، وميشال فاضل)، يراهن منظموه على المكان. أمين أبي ياغي الرئيس التنفيذي لشركة «ستار سيستم» المنظمة للمهرجان يرى أن المكان الذي يحتضن الحفلات هو «أحلى مكان بلبنان» في الهواء الطلق. واللافت هذه الدورة أمسية (7 آب) يقدمها الموزع الموسيقي ميشال فاضل حافلة بمقطوعات تجمع الشرق باللاتيني، عبر استعادة أغنيات فريق «جيبسي كينغز».
تحرص «بعلبك» على حماية تاريخ المهرجان في قلب العاصفة


الأجواء اللبنانية حاضرة بقوة في «مهرجان ذوق مكايل الدولي». رغم الصعوبات المالية التي يواجهها، جراء الضرائب، إلا أنّه زاد هذا العام عدد الحفلات الى أربع بعدما كانت حفلتان. والسبب كما تقول لنا رئيسة لجنة المهرجان زلفا بويز، دعم البلدية للحفلتين الإضافيتين، بغية دعم الوجوه الشبابية البارزة، كمايك ماسي، الذي يطل هذا العام (8 تموز)، بعد مشاركته في «مهرجان ذوق مكايل الدولي 2014»، وإنتاج المهرجان أسطوانة له بعنوان «نسيج». التركيز على العنصر اللبناني، لا يعدو كونه تشجيعاً له كي يحظى بشهرة في بلاده بدل أن يكون ذلك في الخارج على حد تعبير بويز. مع كل هذه الأجواء المشجعة، تبقى غصة «الخنقة» المالية، والوقوف دائماً على سؤالين اثنين طرحتهما بويز: «لوين بدنا نوصل؟ هل رح نقدر نكفي؟». ومع التعويل على الشركات الخاصة التي ترعى المهرجان حفظاً لاستمراريته، فإن رئيسة لجنة «مهرجان ذوق مكايل» ترى في السياسة الضرائبية المتصاعدة على كاهل المهرجانات، اتجاهاً نحو «الإفلاس» في قطاع الثقافة.