عام 2015، لبّى الفنان زياد الرحباني دعوة اثنين من مهرجات الصيف المحليّة. هكذا، قدّم في 23 تموز (يوليو) حفلةً ضمن «مهرجانات ذوق مكايل الدولية» تلتها الثانية بعد أسبوع تماماً ضمن «إهدنيات». ختام الأمسيتَين المذكورتَين اختلف جذرياً لناحية المزاج. في الذوق، اختُتِم البرنامج بموسيقى «… وقمح» (حملت عام 2008 عنواناً رديفاً، هو «الشرق الأوسط»، لأنها ستكون نشيد الأيام الآتية التي أتت فعلاً!) وفي إهدن بأغنية «يا جبل الشيخ»، في حين أن المرحلة التي تلت الإطلالة الأخيرة لا تشبه بشيء ما وَدَّع به زياد الجمهور. أي، آخر صورة تركها الرجل كانت فرح ورقص وصمود «جبل الشيخ». أما هو فغادر إلى حزن وقلق ويأس «… وقمح». ثلاث سنوات مضت. السنوات الثلاث غفلة، والعمر كمية من «ثلاث سنوات»، من غفلات، نجمعها لكنها لا تتراكم، ويبقى العمر غفلة.
يتولى الغناء المنفرِد النجمان منال سمعان وحازم شاهين

السنوات، عندما تمُرّ تساوي غفلة، وعندما تضيع تساوي عمراً، وإذا أردنا تعويضها تستحيل دهراً. يا للخسارة. يا لهذا الظلم. فعندما يضيع وقتٌ من حياة موسيقي، تُحرَم مكتبة الإنسانية الموسيقية من تحف إضافية ويضيع على البشر بعض الجمال ويتأخّر المجتمع خطوةً في مسيرته التقدمية وتخسر الأخلاق درجة من منسوبها العام لدى البشرية جمعاء. عندما نعرف أن آلافاً من البشر درست التأليف ومارسته خلال الفترة الممتدة بين باخ وبيتهوفن مروراً بموزار، ندرك قيمة من تمتّعوا بموهبة صناعة الجمال.


وعندما نستمع إلى المؤلفات القليلة الفاشلة التي وضعها دماغٌ بحجم ذاك الذي وضعه القدر فوق كتفَي الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، نستنتج أن لصانعي الجمال (الموسيقي أولاً) دماغاً من نوع آخر، لا علاقة له بالذكاء فحسب. هنا نلمس كم هو نادر واستثنائي وجود مؤلف من طراز زياد الرحباني بيننا، وكم محبطٌ أن يظل يردّد طيلة سنوات الغياب الثلاث: مش معقول دماغ الإنسان! فقد كان يشغله، بحسرة، كيف أن الدماغ يتحكّم بنا وكم إرادتنا معدومة في التأثير على «مشاريعه» لنا، وكم «رأيُنا» غير مسموع عنده متى أتى الحديث عن المزاج! لماذا؟ فعلاً، لماذا؟
تحت عنوان «العَلّ» — أو آلية العمل البطيئة والمثقلة بشتى أنواع «أمراض» المجتمع اللبناني والتي تطال كل المجالات — قدم زياد الرحباني حفلته الأخيرة وترك مسرح «إهدنيات» إلى المنزل، ومنه إلى العزلة التامة: لا حفلات، لا أمسيات حميمة، لا مقابلات، لا لقاءات عامة أو جلسات خاصة.
ستتمثّل في الموعد كل مراحل مسيرته الفنية

إنها الدوامة التي لا تسمح، بفعل شكلها الهندسي وحركتها، بتحديد باب الخروج منها… وإذ بالإعلان عن حفلتَيه في «بيت الدين» ينثر الأمل. اسم الحفلة «… على بيت الدين»، وهي تعويضٌ لخسارتَين: خسارة الانقطاع الأخير، وخسارة إلغاء مشاركة سابقة في المهرجان الشوفي عام 2010. بشيء من اللهفة الطفولية، ينتظر الجمهور الحفلتَين اللتين تقامان في الباحة الخارجية لقصر المير أمين في 12 و13 تموز (يوليو) المقبل. بدأ زياد العمل على البرنامج قبل أشهر، وترافق التحضير بـ«تمارين على العودة» عبر سلسلة أمسيات موسيقية في حانة «بلو نوت». ستتمثّل في الموعد كل مراحل مسيرة زياد الفنية، منذ بداياته لغاية الأعمال الجديدة، الموسيقية والغنائية، التي لم يسمعها الجمهور أبداً من قبل، وستتولّى تنفيذ البرنامج أوركسترا خاصة، تشكّلت من موسيقيين لبنانيين وعرب (سوريا ومصر) وأجانب (أرمينيا وهولندا)، ويتولّى الغناء المنفرِد النجمان (بالمعنى الفني لا الإعلامي) منال سمعان وحازم شاهين.
نعود إلى السؤال: لماذا؟
يقول أحد أبرع قادة الأوركسترا من الجيل الصاعد، الروسي تيودور كورنتسِس، في ختام رسالة (وهمية) إلى تشايكوفسكي (اسمه الأول بيوتر إيليتش)، وَردَت في كُتيِّب إصدارٍ جديد للسمفونية السادسة للمؤلف الكبير: «ليس بالأمر السهل العيش في عالم فقد فيه الناس القدرة على البكاء في حضرة الجمال — أليس كذلك، عزيزي بيوتر إيليتش؟»
أليس كذلك، عزيزي زياد؟