انخفاض عدد المنتسبين إلى غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان من أكثر من 15000 مؤسسة إلى نحو 9000، هو مؤشّر، وإن كان لا يكفي، إلى التعبير عن تداعيات الأزمة النقدية والمصرفية على الصناعة في لبنان. فالمخاطر تحوم فوق القطاع من كل الجهات؛ شحّ في الموارد البشرية، أكلاف مرتفعة للطاقة، ارتفاع في أسعار المواد الأولية والشحن، صعوبات في التصدير، تعدّدية في أسعار الصرف، انهيار للقطاع المالي وهروب للموارد البشرية.ارتفاع كلفة الطاقة في عام 2022 مثّل ضربة كبرى للصناعة حول العالم. في أوروبا أُقفلت مصانع بشكل نهائي، أو انتقلت إلى دول أخرى. أما في لبنان، فبحسب الرئيس السابق لجمعية الصناعيين فادي الجميل، فإن نسبة كلفة الطاقة من كلفة البضائع المبيعة كانت 3.7%، ثم ارتفعت إلى أكثر من 10% بعد الأزمات المحلية والخارجية. وهذا المعدّل يشمل كل أنواع الصناعات، إلا أنه في ما يخصّ تلك التي يتطلب إنتاجها استهلاكاً مكثّفاً للطاقة مثل معامل تدوير الورق، والبلاستيك، والسيراميك، والزجاج... فإن نسبة الطاقة من كلفة مبيع المنتج النهائي تصل إلى 50%. وهذا يعني أن الصناعي بات يواجه خيارات محدودة، أولها أن مرونة الأسعار تفرض عليه ألا يرفع أسعاره كثيراً حتى تبقى تنافسية مبيع السلع في الداخل والخارج، أو التخلّي عن نسبة كبيرة من أرباحه. المفاضلة بين الربحية والوصول إلى السوق والمستهلك لن تكون خياراً سهلاً بالنسبة إلى رأس المال الساعي دائماً إلى الربحية بأقصى مستوياتها.

(أنجل بوليغان ـ المكسيك)

وبالتوازي مع ارتفاع أكلاف الشحن وأسعار المواد الأولية التي ارتفعت بحسب رئيس نقابة أصحاب الصناعات الغذائية منير البساط من «1000 دولار على الكونتير الواحد مثلاً، إلى 10,000 دولار»، تحوّل الاقتصاد اللبناني، إلى اقتصاد الكاش، ما انعكس مباشرة على آليات استيفاء ثمن البضاعة. فأصحاب المعامل والمصانع لم يعودوا يقبلون بمنح زبائنهم مهلة لسداد الدين كانت تمتدّ في السابق ما بين 30 يوماً و90 يوماً، بل صار الدفع نقداً عند التسلّم، أو كحدّ أقصى في بعض الحالات خلال أسبوع.
هذه الضربات المتتالية أخرجت بطبيعة الحال بعض المصانع الصغيرة والمتوسطة من السوق. لكن مسار إقفال المصانع في لبنان لم يبدأ الآن، بل كان سابقاً للأزمة. بمعنى أوضح، كانت مفاعيل الأزمة باعتبارها تركّز الاقتصاد في القطاع الريعي، تظهر مبكراً في القطاعات الإنتاجية التي كانت تعاني من هذا التركّز إلى درجة الإقفال. عملياً، كانت تموت ببطء. ففي سنوات سابقة للأزمة، كانت لدى لبنان معامل زجاج وسيراميك، كمعمل «Soliver» لإنتاج الزجاج وتدويره، ومعمل «يونيسيراميك» لإنتاج بلاط السيراميك. هذه أقفلت أبوابها ليس فقط بسبب أكلاف الطاقة المرتفعة، وأكلاف الاستدانة المرتفعة، بل نتيجة الإغراق الذي تعرّضت له على أيدي التجّار. وقد حصل الأمر على مرأى من قوى الحكم التي راقبت إقفال مئات مصانع السجاد مثلاً، ومصانع الألبسة في مفاضلة واضحة لمصلحة التجّار. وبالطبع، كان هذا الأمر يعني أننا نستورد المنتجات الجاهزة من دول أخرى مثل مصر وتركيا والصين. وكان ممنوعاً على لبنان، بقوّة التجّار، وبقرار خارجي مبني على تفاهمات مع منظمة التجارة العالمية، والاتفاقيات التجارية الثنائية والجماعية، أن يدعم أكلاف الإنتاج في لبنان، خلافاً لما هو عليه الحال في الدول التي يستورد منها لبنان منتجاته الجاهزة. عملياً، دفعنا المصارف إلى الإفلاس والإقفال بذريعة أنه ممنوع دعمها، من أجل استيراد بضائع مدعومة الكلفة في بلدانها، سواء أكانت كلفة الطاقة أم الشحن. القيم المضافة التي خسرها لبنان، لا تتعلق بحجم الاستثمار الذي قد يبدو صغيراً في بعض المصانع، إنما باستنزاف العملات الأجنبية التي يستقطبها لبنان من الخارج بأكلاف مرتفعة من أجل تمويل استيراد البضائع المدعومة الكلفة الجاهزة للاستهلاك.
والآن، يمتلئ السوق اللبناني بالبضاعة المدعومة من الخارج، والتي سعرها أقل بكثير من المنتجات المصنوعة محلياً. وما يزيد الطين بلّة هو التبادل الحرّ، أي أن الدولة اللبنانية لا تفرض رسوماً جمركية على الاستيراد لحماية الصناعة المحلية. وهذه المشكلة لا تزال موجودة حتى اليوم. بل كان يفترض أن تقترح الحكومة فرض رسم بنسبة لا تقلّ عن 10% على كل البضاعة التي يستوردها لبنان رغم أن لديه مصانع محلية تنتج هذه السلع ويمكنها أن توفّر اكتفاء ذاتياً محلياً فيها. لكنّ ضغط لوبي التجار، وتماهي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي معهم، كانا أقوى ودفعا إلى التراجع عن قرار كهذا، وجرى الاكتفاء بإجراءات رمزية.
في المقابل ورغم الأزمات والسياسات التي تسلب من الصناعة المحلية الأفضلية في المنافسة، لا تزال هنالك مصانع في لبنان رأت في الأزمة فرصة ودخلت في مجالات جديدة لم تكن موجودة محلياً قبل الأزمة، مثل الازدهار في سوق مواد التنظيف المحليّة الصنع، وذلك سببه المباشر كان أزمة جائحة كورونا. المشهد ليس سوداوياً على الجميع، فمع الانخفاض الكبير في القيمة الشرائية لدى معظم اللبنانيين وارتفاع أسعار المنتجات، أُجبر الأفراد على التعديل في سلوكهم الاستهلاكي. وذلك خلق طلباً أعلى على المنتجات المحلية، ما دفع نحو ولادة صناعات جديدة. فمثلاً، المنتج دانوي «danway» البديل من نوتيلا «nutella» يُصنّع في معمل «libanjus» الذي يتنافس حالياً مع ماركات تجارية تركية مثل «توركو». وهذا ينطبق على الكثير من المنتجات اللبنانية التي تتنافس مع الأخرى التركية.
كانت مفاعيل الأزمة باعتبارها تركّزاً في القطاع الريعي تظهر مبكراً في القطاعات الإنتاجية وتجبرها على الإقفال


وهناك حالات خاصة في بعض الصناعات. فبعد قرار وزير الاقتصاد بمنع تصدير القمح القاسي، أصبحت الكمية المتوافرة للاستعمال الداخلي تبلغ نحو 50 ألف طن، فاغتنم بعض الصناعيين هذه الفرصة لصناعة الـ«Pasta»، وأصبح اليوم لدينا معملان يصنعان منتجات 100% محلية. وإن كانت هذه المنتجات لا تلبي احتياجات السوق، إلا أن هذا المجال أصبح قابلاً للتطوير. لكنّ الفرص لا تقتصر على بعض القرارات، بل تتعلق أيضاً بانخفاض كلفة العمالة. وهذا أمر بات يجذب شركات عالمية لصناعة منتجاتها بكلفة أقل. فعلى سبيل المثال، اختارت شركة «nestle» العالمية صناعة بعض من منتجاتها في معمل غندور في لبنان.
أحد أوجه التكيّف مع الأزمة، هو لجوء معظم المؤسسات اللبنانية إلى استخدام الطاقة البديلة وذلك نتيجة الانعدام التام للكهرباء والفواتير العالية التي تُدفع للمولدات شهرياً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، غالبية المطاعم والمتاجر الكبيرة ومحطات البنزين والأفران على أوتوستراد خلدة، لديها ألواح طاقة شمسية إما على السطوح، أو خلف المتاجر في بقعة مكشوفة. هذا التكيّف مع الواقع، لا مهرب منه في حال أرادت هذه المؤسسات أن تستمرّ. يقول صاحب مؤسّسة «Harkous Shops» في خلدة: «لقد قمنا بتركيب حوالي 200 لوح طاقة شمسية، وذلك سمح لنا بتوفير 30% من مصروف المازوت».



خسائر العمال الماهرين
مع ارتفاع نسبة الهجرة، واختراق المنظمات غير الحكومية للمجتمع المقيم في لبنان، خسر القطاع الصناعي اليد العاملة، إذ يقول رئيس نقابة أصحاب الصناعات الغذائية، منير البساط، إن الأمر يتعلق بهجرة اليد العاملة الماهرة بسبب عروضات في الخارج تتضمن رواتب مضاعفة ولا سيما في الخليج، فضلاً عن رغبة بعض هؤلاء بالعمل لمصلحة الـ«NGO»، وكل ذلك يضاف إلى أنه منذ ما قبل الأزمة فإن اللبنانيين كانوا ولا يزالون يرفضون العمل في مهن عديدة في قطاعات مختلفة. ويفسّر الرئيس السابق لجمعية الصناعيين فادي الجميل، الأمر بالإشارة إلى عدم وجود خطة شاملة وواضحة، ولا معاهد تقنية وحرفية تساعد على سدّ فجوة الحرفيين اللبنانيين. وقال: «في لبنان إذا رسب التلميذ في المدرسة فيتقرّر إرساله إلى المهنية باعتبارها ذات مستوى أدنى». ونتيجة هذه الثقافة والإهمال المستمر، تقوم المصانع بدور المعاهد، وذلك عبر ورش تدريبية لتعليم العمال على المهن الحرفية والصناعية.