لعل من أهم الآراء التي تعارض فكرة «الإمبريالية» وسماتها هي تلك التي تؤكد أن تصدير السلع ورؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية لا تمثّل سوى عنصر ثانوي من ناحية أثرها على الاقتصاد الداخلي في دول المراكز. أي إذا أخذنا الولايات المتحدة كمثال، فإن النشاط الاقتصادي الخارجي لا يمثل سوى عنصر صغير، بل عديم الأهمية، بالنسبة إلى الحجم الداخلي للاقتصاد الأميركي. فهل هذه الآراء صحيحة؟قد لا يكاد يكون هناك من يدرك الأثر الكامل للاستثمارات الخارجية لا لجهة الكمّ المتراكم، ولا لجهة الكيف (الأهمية النوعية). فأصحاب وجهة النظر تلك يدركون أن صادرات رؤوس الأموال على صورة استثمار مباشر، في مناجم وآبار وبترول ومصانع، تلعب دوراً ثانوياً بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي. ولكنهم لا يدركون أن الأثر التراكمي للتدفّق السنوي للاستثمار، والأثر النسبي للقطاعات الاستراتيجية التي يتم الاستثمار فيها، يؤدّيان إلى ارتباطات اقتصادية أكبر بكثير جداً من حجم صادرات رأس المال السنوي.

من الناحية الكميّة: تعاظم تحويل الفائض من الخارج إلى الداخل
تكمن المشكلة في الرأي السابق (الذي يُعنى بحجم الصادرات إذا قورنت بحجم الاقتصاد الداخلي) أنه يأخذ بالمقادير السنوية للسلع والخدمات في كل سنة لوحدها من دون رؤية الأثر التراكمي للاستثمارات الخارجية على مرّ السنوات وتتاليها. ولفهم المسألة لا بد لنا من التطرّق إلى الصادرات (وهي سلع ورؤوس أموال واستثمار خارجي). فالسلع، على عكس صادرات رأس المال، لا تمثّل سوى تيار (أي في اتجاه واحد، تباع وتستهلك)، ويسعى أصحاب الأعمال عادة إلى المحافظة على هذا التيار - الذي يتدفق من نتاج مصانع محلية - وإلى زيادته. وهو تيار لا بد من تجديده كل عام؛ فالكمية التي تدفقت إلى الخارج في العام الماضي تنتمي إلى الماضي، ويجب العمل على تحقيق مبيعات جديدة لنتاج هذا العام.

(أنجل بوليغان ـ المكسيك)

أما الاستثمارات التي تتحرّك في الخارج. فهي تتراكم لتكوّن أصولاً استثمارية؛ الاستثمار في مشروع أو مصنع في الخارج يظل في الخارج إلى أبد الآبدين، إلا إذا حدث أن بيع المشروع بأكمله أو صودر، أو حتى إذا نضب المصدر الطبيعي نهائياً الذي يستهدف استخراجه من خلال المشروع الاستثماري. ولكن ما دام المشروع الاستثماري في الخارج باقياً، وما دامت هناك أسواق لما ينتجه، فإن الاستثمار يديم ذاته. فبالإضافة إلى الأرباح وتكاليف العمالة والمواد الأولية يتضمن ثمن المنتجات المباعة ما يعوض الانخفاض في قيمة رأس المال (أو نضوب الاحتياطي) وهكذا فإن الأرصدة تتكوّن بصفة مستمرّة، لا من أجل تحقيق أرباح أبدية فحسب، بل كذلك من أجل تجديد أبدي للتجهيزات واستغلال موارد معدنية جديدة. وبطبيعة الحال يمثل كل استثمار جديد يتدفق إلى الخارج إضافة إلى الأصول الاستثمارية الدائمة.
ولنبسّط الأمور سنفترض المثال التالي: لنفترض أن المندمجات الأميركية جميعها تستثمر في الخارج خمسة مليارات دولار كل عام، وهذا المبلغ يعدّ صغيراً إذا قورن بحجم الاقتصاد الأميركي. ولنفترض أيضاً أن هذه المليارات الخمسة، يتوقع منها أن تنتج سلعاً قيمتها عشرة مليارات دولار. عندئذ ستكون أمامنا النتائج التالية: مقدار رأس المال المستثمر سنوياً في الخارج سيبقى خمسة مليارات دولار في السنة العاشرة، بينما الأصول المتراكمة لرأس المال في الخارج في نهاية العام ستزداد من خمسة مليارات دولار إلى 50 مليار دولار في السنة العاشرة، والناتج السنوي من استخدام التجهيزات الرأسمالية سيرتفع من 10 مليارات دولار إلى نحو 100 مليار دولار.
إن المليارات الخمسة التي تم تصديرها في السنة الأولى أنتجت أصولاً بقيمتها وأنتجت منتجات بقيمة عشرة مليارات دولار للبيع. إلا أنها في السنة التالية (وبعد إضافة خمسة مليارات أخرى من الدولارات المتدفقة) ستنتج قيمة أصول: 5 السنة الأولى + 5 السنة الثانية = 10 مليارات. وهذا يعني مباني وتجهيزات تنتج سنوياً ما قيمته 20 مليار دولار (فالخمسة تنتج ضعفها. أما وقد صارت عشرة مليارات ناتجة عن تراكم سنتين، ستنتج ضعفها أيضاً). وعلى هذا المنوال فإن تراكم صادرات المندمجات الاقتصادية (الشركات الاحتكارية الكبرى) البسيطة من رؤوس الأموال، والتي هي ذلك المبلغ البسيط (خمسة مليارات)، فإن قيمة الإنتاج السنوي الذي ستنتجه تلك المبالغ البسيطة المتراكمة هي أولاً: أصولاً بقيمة 50 مليار دولار، ومنتجات بقيمة 100 مليار دولار.
والآن نصل إلى النتيجة التالية: إن مقارنة خمسة مليارات دولار، وهي رأس مال بسيط إذا قورنت بحجم الاقتصاد الأميركي الداخلي ككل، هي مقارنة باطلة. بل إن ما يجب مقارنته هو المئة مليار دولار بالاقتصاد الداخلي الأميركي لندرك أن تحويلات فائض القيمة التي تتم من الخارج إلى الداخل تلعب دوراً متعاظماً في الاقتصاد الأميركي على مر السنوات.

من الناحية النوعية: الأثر النسبي (الاستراتيجي) للاستثمارات الخارجية
ما يجب أخذه في الاعتبار هو ليس الاكتفاء بالحجم الكلّي للاستثمار فقط، من أجل محاكمة مدّة أهمّية الاستثمارات بالنسبة إلى الاقتصاد الداخلي في دول المراكز، وهذا عيب شائع عند الاقتصاديين الذين لا يميزون بين القطاعات الاستراتيجية وغير الاستراتيجية بالنسبة إلى الاقتصاد الداخلي، أو بين المتغيرات التابعة والمتغيرات المستقلة، كون ما يجب الأخذ به هو الأهمية النسبية لهذه الاستثمارات بالنسبة إلى الاقتصاد الداخلي الأميركي. فكبر أو صغر حجم الاستثمار لا يعبر عن مقدار أهميته بالنسبة إلى الناتج القومي الإجمالي. وهذا الاعتبار لا يعطي بالاً للأهمية الاستراتيجية للقطاع الاقتصادي المعيّن الذي يتم الاستثمار فيه في الخارج. فالاستثمار في قطاعات حسّاسة مثل الموارد الأولية (النفط والحديد...) تُعدّ ذو أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة إلى الاقتصاد الداخلي الأميركي. فهذه الموارد، وخصوصاً ما يتعلق منها بالطاقة، تعتبر شريان الحياة الرئيسي للاقتصاد الأميركي الداخلي. ولا بد من إهمال حجم هذه الاستثمارات إذا تم مقارنتها بحجم أهميتها النسبية بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي ككل.
ما دام المشروع الاستثماري في الخارج باقياً وما دامت هناك أسواق لما ينتجه، فإن الاستثمار يديم ذاته ويعوض الانخفاض في قيمة رأس المال


إن تصدير رأس المال المتأتي من المراكز الرأسمالية القديمة لم يتسع اتساعاً فعلياً إلا بدءاً من عام 1880 تقريباً. فقد ارتفعت صادرات رؤوس الأموال البريطانية من 100 مليون باوند في عام 1825 إلى 210 ملايين باوند في عام 1845، وأصبحت 1300 مليون باوند في عام 1880 ثم 3763 مليون باود في عام 1913. أما صادرات رؤوس الأموال الفرنسية فقد ارتفعت من ما بين 12 و14 مليار فرنك في عام 1883 إلى 45 مليار فرنك في عام 1914. كذلك الأمر بالنسبة إلى صادرات رؤوس الأموال الألمانية التي زادت من 5 مليارات مارك في عام 1883 لتبلغ ما بين 22 و25 مليار مارك في عام 1914. وصادرات رؤوس الأموال عند الولايات المتحدة ارتفعت من 500 مليون دولار في عام 1896 إلى 1500 مليون دولار في عام 1914، وبلغت 18583 مليون دولار في عام 1922 ووصلت إلى 25202 مليون دولار في عام 1933.
إن تصدير الرساميل إلى الخارج هي سمة من سمات الإمبريالية التي ما زالت تمارس حتى اليوم. والتي ما زالت تستنزف فوائض القيمة في دول الأطراف الرأسمالية، ليتم تحويلها إلى المراكز. وما العلاج لهذا الاستنزاف إلا من خلال تأميم هذه الاستثمارات وإعادة توجيه الاقتصاد توجيهاً شعبياً.

المراجع:
(1) هاري ماجدوف، عصر الإمبريالية، منشورات وزارة الثقافة (دمشق – 1971)
(2) سمير أمين، التراكم على الصعيد العالمي – نقد نظرية التخلف، دار ابن خلدون.