في الأشهر الأخيرة، سجّلت اليابان معدّلات تضخّم لم تبلغها منذ سنوات. القرار الرسمي الحكومي لم يترك الأمر، كما حصل في سائر الدول الرأسمالية، للسياسات النقدية لتتولى مهمّة مكافحة التضخّم عبر رفع أسعار الفائدة وامتصاص السيولة، بل سلك طريقاً مختلفاً. إذ يعتمد رئيس الحكومة فيميو كيشيدا على نظرية مفادها أن رفع الأجور سيعزّز الاستهلاك ويحفّز الاستثمارات، لأنه يخلق زيادة في الطلب على السلع والخدمات. وهذه الدورة، برأي كيشيدا، تولّد نمواً في الإنتاج، ونمواً متزايداً في الاقتصاد.

ركود مزمن
أتت أفكار كيشيدا في سياق أزمة الركود التي ضربت اليابان في التسعينيات. فقد أدّى الركود إلى انكماش في الأسعار مسبّباً ما سُمّي «العقد الضائع». إذ إنه منذ مطلع العقد الماضي، لم يتخطّ النموّ السنوي في اليابان الـ 5%. وعنما تسلّم رئيس الحكومة الراحل شينزو أبي، السلطة في عام 2012، لجأ إلى برنامج اقتصادي سُمّي لاحقاً «اقتصاديات أبي» (Abenomics)، الذي يهدف إلى تنشيط الاقتصاد الياباني والتخلّص من الركود المزمن فيه عبر سياسة التيسير النقدي واستخدام أداة التيسير الكمّي (quantitative easing). وبموجب هذه السياسة، خُفّضت معدلات الفائدة إلى ما دون الصفر في عام 2016. ومذّاك اتّبعت اليابان سياسة خفض أسعار الفائدة بهدف تحفيز الاستثمار وتحريك الاقتصاد. لذا، لم يكن رفع الفوائد، الآن، كما فعلت الدول الرأسمالية الأخرى، خياراً لمواجهة التضخّم الحالي. فخطوة كهذه، تعني التخلّي عن سياسات أبي.

39711 دولاراً

هو متوسّط الأجر السنوي في اليابان في 2021 أي بارتفاع أقلّ من 5% مقارنة بمتوسّط الأجور الذي بلغ 37866 دولاراً في عام 1991


وفي عام 2022 بدأت معدلات التضخّم في اليابان ترتفع مسجّلة 4%، وهو أعلى معدّل تضخّم في الـ 41 سنة الماضية. معدّل كهذا قد يعدّ صحيّاً في ظروف عادية نظراً إلى فترة الانكماش السابقة، وقد يكون خبراً مفرحاً لأنه سيعني أن محاولاتهم في كبح الركود نجحت في إعادة الاقتصاد إلى مسار النموّ، إلا أنه أتى في سياق أزمة عالمية. التضخّم الياباني كان مصدره الأساسي ارتفاع الأسعار في الخارج حين تعطّلت سلاسل الإنتاج والتوريد، جرّاء جائحة كورونا أولاً، ثم لاحقاً بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي كان أثرها واسعاً على عدد كبير من القطاعات.
هذه المشكلة تفاقمت في اليابان بسبب السياسات النقدية للدول الأخرى. فعندما رفع الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة لمواجهة التضخّم، اضطرّت باقي المصارف المركزية حول العالم إلى رفع أسعار الفائدة توازياً. ولأن اليابان اختارت سياسة نقدية مختلفة لا تتوازى مع رفع أسعار الفائدة، اضطرت إلى أن تدفع ثمناً تمثّل في خسارة العملة اليابانية «الين» جزءاً من قيمته أمام الدولار، وهذا ما منح معدلات التضخّم دفعاً إضافياً.


أجور مكبوتة
السياسة اليابانية في مواجهة الركود المزمن حرفت تركيز الحكومة عن الأجور. عملياً، كانت الأجور شبه راكدة في اليابان منذ التسعينيات. بين عامَي 1991 و2021 بلغت نسبة النموّ في الأجور نحو 5%، وهو رقم ضئيل جداً مقارنة بنمو الأجور في الاقتصادات المتقدّمة الأخرى (G7) بنسبة 34%. فبسبب انخفاض معدلات التضخّم خلال هذه السنوات، لم يكن لدى العمّال ذريعة قوية للمطالبة بزيادات في الأجور. وخلال هذه الفترة انخفضت حصّة الأجور من الناتج الياباني الإجمالي إلى 55% في 2019 مقارنة مع 65% في مطلع التسعينيات، بحسب أرقام منظمة التعاون الاقتصادي. بمعنى آخر، أنه في الوقت الذي استحصلت فيه الأرباح الرأسمالية على حصّة أكبر من الاقتصاد، بقيت الأجور في اليابان على حالها بحجّة معدلات التضخّم المنخفضة.
لذا، إن زيادة الأجور الاسمية الآن، وتوسيع حصّتها من الناتج الياباني، قد يسهمان في زيادة الاستهلاك وتحريك النشاط الاقتصادي، وخصوصاً أن ارتفاع الأسعار ينعكس سلباً على الاستهلاك. بعبارة أخرى، زيادة الأجور ستعود إلى الاقتصاد التي يحتاج إليها خلافاً لما يحصل حين تكون حصّة الأرباح من الناتج كبيرة، إذ إن جزءاً من هذه الأرباح لا يعود إلى الاقتصاد على شكل إعادة استثمار في ظل ظروف تضخمية غير مشجعة.
في الوقت الذي استحصلت فيه الأرباح الرأسمالية على حصّة أكبر من الاقتصاد، بقيت الأجور في اليابان على حالها بحجّة معدلات التضخّم المنخفضة


لكن هذه السياسة تثير سؤالاً أساسياً: هل سينجح كيشيدا في دفع الشركات لزيادة الأجور؟ قد لا يكون الأمر سهلاً، فالأمر لا يقف فقط عند كلام كيشيدا بحثّ الشركات على رفع الأجور بأكثر من 3%، فلا شيء يُجبر الشركات على اتّباع هذا الكلام، علماً بأن كيشيدا بدأ بالفعل عدّة إجراءات لتحفيز الشركات على رفع أجورها، مثل الإعفاءات الضريبية للشركات التي ترفع أجورها بأكثر من 2.5%، بالإضافة إلى وضع ميزانية بنحو تريليون دولار للمساهمة في تدريب العمّال اليابانيين لنقلهم إلى أعمال ذات أجور أعلى. يضاف إلى ذلك نيته عقد اجتماعات دورية مع الشركات الكبرى للتنسيق معها وحثّها على رفع الأجور. المشكلة أن هذه الأمور، في اقتصاد رأسمالي كاليابان، قد لا تكون كافية، إذ إن الدافع الأكبر للشركات هو الربحية، كما أن العقيدة النيوليبرالية لا تتيح للدولة التدخّل بشكل مباشر في مثل هذه الأمور، وهذه العقيدة هي التي ساهمت في ضرب الحركة النقابية في معظم الاقتصادات الرأسمالية، وهي الحركة التي من المفترض أن تفرض رفع أجور العمّال في مثل هذه الظروف التضخّمية.