في عام 2022 استمرّت إدارة الأزمة، إنّما على الطريقة اللبنانية، ومن دون تفويض سياسي، وخارج المؤسّسات المنتخبة، وبلا أيّ خطة، إلّا إذا عُدّت خطّة الإجراءات العشوائيّة والمتفرّقة الحالية مثل: تذويب خسائر القطاع المصرفي، وإصدار تعاميم تبقي قيد العمل مصارف متعثرة أو مفلسة عملياً، والتمويل بالتضخّم للقطاع العام، والتسديد المقنّن للودائع، والرفع الكامل تقريباً للدعم من دون التعويض على المتضرّرين، والمسار المتثاقل لإجراءات الإنقاذ (حتى الآن 9 مسوّدات لمشروع قانون معالجة أوضاع القطاع المصرفي)، وإعادة تدوير السيولة بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية، وبين المصرف المركزي ومنصّة صيرفة وكبار صرّافي السوق الموازية، وإعطاء مصرف لبنان موقعاً محوريّاً في إدارة أزمة كان مسؤولاً رئيسيّاً عنها، هذا فضلاً عن الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، ثم المماطلة في تنفيذ بنوده.لكن الأكثر بروزاً في 2022، انكشاف الأوهام التي غلّفت السياسات والتوجّهات المتصلة بالأزمة، وعلى رأسها جعل السياسة النقدية من جديد بديلاً من السياسات الأخرى، والاعتقاد بإمكانيّة التكيّف مع الأزمة من خلال الحلول التلقائيّة ومن دون إجراءات جديّة وجذريّة.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

الفرضيات الخاطئة
في العام الماضي، اتّخذت السلطة النقدية منحى جديداً قائماً على استبدال المظلّة الخارجية، التي استقوت بها لعقود مضت، بمظلة داخليّة ذات أكلاف نقدية مرتفعة. ففي أكثر من مناسبة، عمد المصرف المركزي إلى تقديم «خدمات» ذات طابع «سياسي» للسلطات الأخرى، كما في التعميم 161 الذي حقّق استقراراً ساعد على إجراء الانتخابات النيابيّة بموازاة تراجع في الموجودات الخارجيّة لا يقلّ عن مليارَي دولار، ثم في التعميم الصادر في 27 كانون الأول 2022 والذي نصّ على شراء مصرف لبنان كلّ الليرات اللبنانيّة مقابل الدولار بسعر منصّة صيرفة. وظهر هذا النوع من الخدمات في دعم رواتب القطاع العام من خلال المنصّة نفسها، للتعويض عن عجز السلطة الماليّة في استيعاب كلفة تصحيح مدروس للأجور في الموازنة العامة.
ومع ذلك، فإنّ ما يُنظر إليه بوصفه إدارة للأزمة من قِبل السلطة النقديّة يستند في واقع الحال إلى فرضيات هشّة تشبه في منطقها الفرضيات الخاطئة التي استُند إليها منذ التسعينيّات على الصعيد نفسه، وأولاها دعم سعر الصرف بوسائل نقديّة لا اقتصاديّة، وهذا يجلب مخاطر كبيرة لمسنا بعض آثارها في السنة الماضية مع الارتفاع الكبير في فاتورة الاستيراد لأسباب ظرفية واستثنائيّة كارتفاع أسعار المشتقّات النفطية، وتكثيف الاستيراد تحسّباً لرفع سعر الصرف الجمركي، والإنفاق الواسع النطاق على استيراد تجهيزات الطاقة الشمسيّة... ولأسباب ذات صِلة بدعم سعر الصرف بأموال آتية من خارج دورة الإنتاج ولا تدخل ضمن مكوّنات الدخل الوطني المتاح، وفي مقدّمها تسييل احتياطيات مصرف لبنان والسحب من المدّخرات المحفوظة على شكل عملات صعبة مخزّنة في المنازل.
ومن الفرضيات الموهومة الأخرى إمكانية تسيير السياسة النقدية من دون قطاع مصرفي، علماً أنّ من الأدوار التي تعطي المؤسسات المالية أهمّيتها ومبرّر وجودها نقلُ تأثيرات السياسة النقديّة إلى الأسواق، التي من خلالها، يصل المصرف المركزي إلى القطاع المالي ومنه إلى باقي الاقتصاد، وفي صدارة الأهداف التي تسعى هذه السلطات في العادة إلى تحقيقها، كبح معدّلات التضخّم من خلال خفض الفوائد أو زيادتها، والتحكّم بالكتلة النقدية الذي بات الهدف الرئيسيّ لأكثر من 80% من المصارف المركزيّة في العالم.
وبما أنّ التأثير في الكتلة النقدية وأسعار الفائدة هو من الأهداف الوسيطة التي لا تحقّقها المصارف المركزية بصورة مباشرة، فإنّ الطريق إليها يكون باستعمال أدوات مباشرة تخضع لسيطرتها الكاملة، ومنها: تغيير نسبة الاحتياطي الإلزامي وسعر الخصم وتنفيذ عمليات السوق المفتوحة، فضلاً عن أدوات غير تقليديّة (لا تُستعمل في بلادنا) كالتي اعتمدها الاحتياطي الفدرالي الأميركي بعد أزمة 2008 ومنها التسيير النقدي الكمّي والتسيير الائتماني.
من الفرضيّات الموهومة إمكانيّة تسيير السياسة النقدية من دون قطاع مصرفي


هذه الأدوات التي لا غنى عنها في أي سياسة نقديّة فعّالة، باتت معطّلة في لبنان بتعطّل القطاع المصرفي وشلله. أما القناة الوحيدة الالتفافيّة المتاحة أمام مصرف لبنان للتأثير على المجملات النقديّة، فتقتصر على طباعة النقود وضخّها مباشرة في السوق من خلال الصرّافين أو الحضور المباشر عبر الوكلاء، وابتداع قنوات لا تتآلف مع الطرق المألوفة في عمل السلطات النقديّة في العالم، وفي مقدّمها منصّة صيرفة تعمل بصورة غير شفافة ويتدنّى فيها دور المصارف مقارنة بأدوار لاعبين طارئين أو هامشيين في السوق النقدية كالتجار والمضاربين والصرّافين. وفيما شكّلت منصّة صيرفة باباً دوّاراً لضخّ السيولة تارة وسحبها تارة أخرى، فإن المصارف هي القناة الأخرى التي تحوّلت إلى نوافذ ضخّ للسيولة الطازجة بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي لتسديد جزء من سحوبات المودعين بالليرة اللبنانيّة. ولا تكفي هاتان القناتان لتحقيق الأهداف المقرّرة فضلاً عن أنهما تغذّيان تيار الاستهلاك أو المضاربة في جانب الطلب، من دون تأثير على جانب العرض والإنتاج في ظلّ توقّف شبه تام للائتمان المصرفي المخصّص للاستثمار.
وما يقلّل من مرونة الأسواق النقديّة في تمويل الاقتصاد والتفاعل مع حاجاته فقدان المصارف القدرة على خلق النقود الكتابيّة (نقود الودائع أو النقود الداخلية Inside money في مقابل النقود الخارجية Outside money الورقية التي يصدرها المصرف المركزي). وتمثّل النقود الكتابيّة في العادة الجزء الأكبر من الكتلة النقدية بتعريفاتها الضيّقة والواسعة M1 وM2 و M3، ويتأثّر حجمها وقدرة المصارف على خلقها، بالمضاعف النقدي ومضاعف الائتمان المرتبطين ارتفاعاً وانخفاضاً بدورة النشاط الاقتصادي. وهذا يعني أن ما استحدثه مصرف لبنان من أدوات تدخّلية، أضعف إلى أبعد الحدود التفاعل المطلوب بين الاقتصادين النقدي والحقيقي.

عجز خارجي لا تعوّضه التدخّلات
وحتى لو تمكّن المصرف المركزي من إدارة السيولة بالليرة اللبنانية بالشكل المطلوب بمعزلٍ عن التعافي المصرفي فسيبقى عاجزاً من دون مصارف سليمة عن استقطاب العملات الأجنبيّة وإعادة تكوين الاحتياطيات منها، إلّا بصورة مؤقّتة وبوتيرة بطيئة غير مستدامة. فلبنان، للمرّة الأولى ربما في تاريخه الحديث، يقف وجهاً لوجه أمام مشكلته الاقتصاديّة الجوهريّة والمزمنة المتمثّلة في نقص الإنتاج وضعف الإنتاجية التي كانت تُغطّى في السابق بتدفق السيولة من الخارج. وبتعبير أدقّ، كان عجز الحساب الجاري الذي يعبّر عن ضعف إنتاجية الاقتصاد اللبناني يُغطّى بحساب رأس المال ولا سيّما منها التدفّقات القصيرة الأجل التي كانت مساهمتها أساسيّة في توازن ميزان المدفوعات وتحقيقه الفوائض في سنوات عدّة. ومع جمود هذا الحساب بسبب أزمة القطاع المصرفي، بات رصيد ميزان المدفوعات مطابقاً تقريباً لرصيد الحساب الجاري، ما سيعرّضه لعجز متواصل في الميزان المذكور، ويجعل رصيده المالي في وضعيّة مدين (صافي اقتراض) بصورة دائمة ما لم يُجرِ إصلاحات بنيوية في اقتصاده.
ولعلّ هذا ما يفسّر لنا عقم التدخّلات التي يديرها مصرف لبنان في الأسواق واضطرابها وكلفتها العالية وتراجع قدرتها على إبطاء تدهور سعر الصرف. وسيجد المصرف المركزي نفسه مضطراً إلى تقليص حضوره في السوق مع نضوب احتياطياته، وربما يتوقف عن التدخل كلّياً إلّا لتغطية سحوبات المودعين، عندما تصل موجوداته من العملات الأجنبيّة إلى ما يساوي القيَم المطلوبة لردّ الشريحة التي تقلّ عن 100 ألف دولار. وبما أن الدفع يُفترض أن يكون مناصفة بالليرة اللبنانية والدولار وبالتساوي بينه وبين المصارف، فإنّ القيمة التي يجد مصرف لبنان نفسه مضطراً إلى الاحتفاظ بها لتمويل هذه العمليّة تراوح بين 4 مليارات و5 مليارات دولار أميركي. وما لم تتغيّر الأوضاع نحو الأحسن، فإن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الوصول إلى هذا الرقم تعادل سنة ونصف سنة على الأكثر. وفي هذا السياق، لا بدّ من إعادة تقويم تجربة الدعم بوصفها شكلاً من أشكال التدخّل النقدي في السوق، لا مجرّد تحويلات اجتماعية غرضها السيطرة على أسعار السلع الأساسيّة. ففي مقابل قرار المصرف المركزي في آب 2021 التوقف عن الدعم الواسع النطاق، اضطرّ إلى تكثيف تدخّلاته من خلال منصّة صيرفة وبالوسائل الأخرى المتاحة لتخفيف أثر قراره هذا. صحيح أنّ تراجع القيم المطلقة لموجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبيّة تباطأ بمرور الوقت، فتدنّت هذه الموجودات بقيمة 9.3 مليارات دولار أميركي بين تشرين الأول 2019 وتشرين الأول 2020، ثم بقيمة 5.83 مليارات دولار أميركي حتى تشرين الأول 2021 وبقيمة 4 مليارات دولار أميركي حتى نهاية شهر تشرين الثاني عام 2022، أي بتراجع إجمالي يقدّر بـ 18.7 مليار دولار أميركي من بداية الأزمة، إلا أنّ الوتيرة النسبيّة للتراجع بقيت تقريباً كما هي، إذ فقدت الموجودات الأجنبيّة 731% من قيمتها الإجماليّة في المدّة الأولى ثمّ 26.9% و27.7% على التوالي في المدّتين اللاحقتين.
لكن الأكثر بروزاً في هذا المجال كان تقلّص فعاليّة التدخّلات في لجم انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانيّة، ما يدلّ على حصول تكيّف سلبي من قبل المتعاملين في الأسواق، ووقوع الإجراءات النقدية في مدار توقّعات الأفراد، فضلًا عن تأثيرات تعاظم فجوة الحساب الجاري على الاستقرار النقدي. ففي السنة الأولى التي أعقبت الأزمة (2020)، خسرت الليرة اللبنانية نحو 78% تقريباً في مقابل تدخّل بمقدار 9.3 مليارات دولار أميركي، بما فيه المخصص للدعم والذي يصبّ في نهاية المطاف في مصلحة ضبط أسعار الصرف، فيما خسرت العملة الوطنيّة نحو 84% من قيمتها في العامين التاليين (2021 و2022) في مقابل تدخّل في السوق ناهز عشرة مليارات دولار.