تكشف البيانات الأخيرة عن وجود تصدّعات عميقة تهدّد الترابط الاقتصادي والانفتاح بين دول العالم، وهي تضاف إلى الشكوك حول جدوى العولمة منذ الأزمة المالية العالمية بين عامي 2008 و2010، وخصوصاً في الاقتصادات المتقدمة. أتاح هذا الأمر لصانعي السياسات الاقتصادية والنقدية، فرض قيود على حركة رأس المال والتجارة والهجرة والتكنولوجيا. ومن الأمثلة على هذا الاتجاه، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (أو ما يُعرف بالـ«بريكزيت»)، والحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، أي الصين والولايات المتحدة. وقد أكملت جائحة كورونا هذا الاتجاه، فيما أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتضاعف التفكّك الموجود في الاقتصاد العالمي.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الدوافع التي تقود نحو تجزئة الاقتصاد العالمي وتفكّكه متعدّدة. وهي تشمل دوافع استراتيجية؛ مثل الاعتبارات الأمنية أو تعزيز الاستقلالية عبر تقليل الاعتماد على الدول الأخرى. بالإضافة إلى دوافع التنافس الاقتصادي الاستراتيجي بين الدول والتكتلات الدولية. وأخيراً، هناك دوافع السياسات الاقتصادية المحلية، مثل الرغبة في تحفيز الإنتاج والعمالة داخل الحدود الوطنية.

الشكل الحالي
الشكل الذي يظهر فيه اليوم الهيكل الاقتصادي العالمي تكوّن خلال حقبة تحرير التجارة، بعد عام 1980، إذ أصبحت الروابط عبر الدول شديدة التعقيد، وارتفع حجم التدفقات المالية وتوسّعت قاعدة أنواعها. كما أصبح العالم أكثر ترابطاً، من خلال تطوّر أدوات التواصل والاتصال، وهي أخذت شكلها الأخير عبر تكنولوجيا الإنترنت، التي يستخدمها اليوم نحو 66% من سكان العالم.
من ناحية أخرى، أصبحت سلاسل التوريد تتّسم بالتدويل الشديد. وقد حدث ذلك بسبب توسّع الاستعانة بالمصادر الخارجية (outsourcing) للتصنيع والخدمات، وهي حركة تحدث بشكل رئيسي من الاقتصادات المتقدّمة التي تستعين بالدول ذات العمالة الماهرة والكلفة الأرخص للتصنيع والخدمات. وأصبح إنتاج العديد من السلع الأساسية مركّزاً بشكل كبير، وهو ما أصبح مصدراً لهشاشة سلاسل القيمة العالمية. فعلى سبيل المثال، تهيمن أميركا على سلسلة التوريد للنفط والغاز، فيما تسيطر الصين على معادن الطاقة النظيفة. وهذا ما يجعل سلاسل القيمة العالمية عُرضة ليس فقط لقوّة السوق والمخاطر اللوجستية، بل أيضاً للاضطرابات الجيوسياسية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وكان دور الاقتصادات الناشئة جزءاً أساسياً من تشكّل هيكل الاقتصاد العالمي. فبين عامي 1995 و2019 تزايدت حصة الدول الناشئة في الاقتصاد العالمي، بما فيه الناتج المحلّي الإجمالي العالمي والإنفاق العسكري والقيمة المضافة للصناعة وصادرات التكنولوجيا المتقدّمة ومداخيل الموارد الطبيعية وعدد السكان. ففي الفترة المذكورة انخفضت حصّة الدول الصناعية مثل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وأميركا من 74% إلى 50% من الناتج المحلّي العالمي. وتحوّلت الأسواق الناشئة من وجهة للاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) إلى مصدّر لها، بعد عقود من استقبالها لهذه الاستثمارات. يُذكر أن الصين باتت تمثّل نحو ثلث القيمة المضافة للصناعة العالمية. كما أصبحت الشريك التجاري الأكبر لعدد متزايد من الدول.

علامات التفكّك
يظهر تفكك الروابط في الاقتصاد العالمي من خلال عدّة مؤشرات مهمة؛ بدايةً، تراجع العولمة هو من أهم هذه المؤشرات. فبعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008 بدأ التباطؤ في تدفقات رأس المال عبر الحدود، بسبب خفض المصارف العالمية لديونها لإعادة بناء هوامشها الرأسمالية. كما أدّى تصاعد الاستياء من العولمة إلى تأجيج الشعبوية السياسية والتوترات التجارية. ومما لا شكّ فيه أن اشتداد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين يؤدّي إلى زيادة عدم اليقين بشأن السياسة التجارية العالمية ويسهم في شلّ آليات النزاعات التجارية المتعددة الأطراف.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا التوتر الأخير هو أحد أوجه التوتّرات الجيوسياسية، التي أتت جائحة كورونا والحرب الأوكرانية لتعمّقها بشكل أكبر. ففي ذروة الوباء، فرضت العديد من الدول قيوداً على الصادرات من السلع الطبية والمواد الغذائية، وشكّل حظر الصادرات نحو 90% من القيود التجارية. في حين أن النزاعات العسكرية الدولية تتزايد في جميع أنحاء العالم، وهي تتسبب بانعكاسات كبيرة على العلاقات الجيوسياسية، كما حدث في حالة الحرب الروسية الأوكرانية التي أدّت إلى وضع عقوبات على روسيا أدّت إلى اضطرابات كبيرة في أسواق الطاقة والسلع الزراعية. وقد تبين من خلال هذا الأمر أن سلاسل الإنتاج وشبكات التمويل التي عملت بشكل جيد نسبياً في ظل ظروف عالمية حميدة كانت أقل مرونة في أوقات الجائحة وزيادة التوترات الجيوسياسية. حيث تسببت هذه التوترات في مزيد من السياسات الحمائية وزيادة استخدام القيود التجارية، ولا سيما في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة التي من المحتمل أن تكون مرتبطة بالأمن القومي أو المنافسة الاستراتيجية.
الحدّ من حركة رأس المال ينعكس سلباً على الإنتاجية والابتكار


وأخيراً تُظهر الاضطرابات في سلاسل التوريد، وجهاً من أوجه التفكّك في الروابط الاقتصادية العالمية، إذ تُركز الشركات على مرونة سلاسل التوريد الخاصة بها، مدفوعة برغبة في تقليل المخاطر الأمنية واللوجستية، إلى حدّ أن قرارات مواقع الإنتاج التي تتخذها الشركات تسترشد في بعض الأحيان بالسياسات الحكومية بدلاً من اعتبارات الكفاءة. بينما تشير الأدلّة إلى أن مرونة سلسلة التوريد في مواجهة الصدمات يتم بناؤها بشكل أفضل من خلال التنويع عبر مصادر مُدخلات الإنتاج، قد تفكّر الشركات بدلاً من ذلك في إعادة توطين الصناعات أو دعم الأصداء للتعامل مع المخاطر المذكورة. في الواقع يبدو أن الإشارات إلى الكلمات الرئيسية مثل «إعادة توطين الأعمال» والتصنيع في المناطق المجاورة (Nearshoring)، قد زادت بشكل كبير في البيانات المالية والتقارير السنوية للشركات.

قنوات التفكّك
على غرار التكامل الاقتصادي، يمكن الشعور بتأثير التفكك الجيو-اقتصادي من خلال التغيّر في أنماط حركة التجارة والتكنولوجيا والعمالة ورأس المال. وتتفاعل هذه القنوات داخل وعبر الحدود الوطنية وكذلك الكتل الجغرافية.
لعدة عقود كانت التجارة الدولية حافزاً لتوليد الدخل عبر الدول، والحدّ من الفقر العالمي ورفع مستويات المعيشة. إلا أن التجارة العالمية تشهد تجزئة اليوم، ومع التقدّم إلى الأمام فإن زيادة التجزئة ستقلّل الفرص الاقتصادية، ولا سيما بالنسبة إلى الاقتصادات النامية، وتعيق من محاولات الحدّ من الفقر العالمي، وتخفّض مستويات المعيشة، إذ يؤدي التحوّل إلى التوريد القريب (Nearshoring) أو التوريد الصديق (Friendshoring)، إلى تقليل تعرّض المنتجين المحلّيين للتطورات الجيوسياسية والصدمات العالمية، ولكنه ينطوي أيضاً على أكلاف باهظة واضطرابات كبيرة، إذ أصبحت الأسواق مجزّأة بشكل متزايد. والفترة الانتقالية التي يعيشها العالم اليوم ترتبط بخسائر عميقة في الإنتاج، بما في ذلك في بلدان الأسواق الناشئة والدول النامية. كما تؤدي إعادة تشكيل سلاسل التوريد إلى سلسلة من النقص المؤقت في العرض، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتسريع التضخّم.

تقليص تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر يحدّ من الروابط بين الشركات المتعدّدة الجنسيات


ومن ناحية أخرى، تشكّل التكنولوجيا قناة إضافية لتفكّك الاقتصاد. فالتجزئة التكنولوجية وتقليل الانتشار التكنولوجي يؤدّيان إلى إعاقة الابتكار والانخفاض في الانتاجية، ولا سيما في الدول الأقل نمواً. كما يمكن للحواجز التجارية أمام مُدخلات وخدمات التكنولوجيا العالية أن تقلل من الإنتاجية وتُعيق تقارب مستويات الدخل عبر الدول. إضافة إلى ذلك يمكن للجهود المبذولة لمنع الدول من الارتقاء تكنولوجياً أن تخلق نقصاً في الإمدادات في صناعات أخرى.
كما توجد قنوات أخرى للتفكّك الاقتصادي العالمي، مثل زيادة العوائق أمام تدفقات العمالة ورؤوس الأموال. حيث يمكن أن يؤدي تزايد الحواجز أمام تدفقات العمالة عبر الحدود إلى تقليل الكفاءة وإعاقة الابتكار والانتشار التكنولوجي وتفاقم الاتجاهات الديموغرافية المعاكسة. أما الحدّ من حركة رأس المال فمن الطبيعي أن يكون أيضاً ذا تأثير سلبي على الإنتاجية والابتكار. ومن المرجّح أن يؤدّي تقليص تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى زيادة سوء تخصيص رأس المال والحدّ من الروابط بين الشركات المتعدّدة الجنسيات، فضلاً عن التداعيات التكنولوجية.