في كتابه «الفرصة الضائعة في الإصلاح المالي في لبنان» الصادر عام 2001، يروي الوزير السابق جورج قرم ظروف تلك المرحلة وتجربته في الحكومة كوزير للمال. يذكّر قرم أنه في ذلك الحين، قام فريق من ثلاثة أشخاص ضمنهم هو بنفسه إلى جانب الوزير السابق شربل نحاس، والأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر (بصفته الشخصية يقول قرم)، بتحضير دراسة شاملة لمشكلات لبنان الاقتصادية والمالية وكيفية معالجتها، ثم أُتبعت بما سُمّي «خطّة الإصلاح المالي». كانت الخطّة تهدف إلى وقف الانزلاق نحو القاع الذي بلغناه اليوم. اقترحت الخطة تعديلات في النظام الضريبي، إلا أنها اصطدمت، كالمعتاد، بمصالح أصحاب رأس المال، والمصارف.

الانقلاب على الخطة جاء من داخل الحكومة عبر اللجنة الاقتصادية الوزارية التي كُلّفت بمناقشتها، والتي ضمّت نجيب ميقاتي، محمد يوسف بيضون، أنور الخليل وناصر السعيدي.
لم تكن حكومة الحص تلك متجانسة، إذ كان نصفها من صقور السياسة التقليديين، عدا أنها تعرّضت لحملات إعلامية شرسة غير مسبوقة. يقول قرم إنه أطلق تحذيرات متكررة مفادها أن الخطة كانت «الفرصة الأخيرة أمام لبنان لتجنّب الكارثة، أو الوقوع في براثن صندوق النقد الدولي». لا أعرف إلى أي مدى كان لدى تلك الحكومة فرصة فعلية للقيام بإصلاح حقيقي، إنما تكرّر الأمر نفسه في عام 2004 مع وزير المال الياس سابا، وفي عام 2016 مع تجربة الوزير شربل نحاس في وزارة العمل والتي انتهت باستقالته.

أصل العلة
تقوم فلسفة لبنان الاقتصادية منذ عقود على بدعة أن اللبناني فينيقي، وهو بالفطرة لا يبرع سوى بالتجارة والخدمات، أي أن اللبناني «بيّاع»، وهو بلا شكّ اكتسب مهارات وخبرات كبيرة في هذه القطاعات. لكن هذه الفكرة تختزل لبنان بمدن الساحل، ولا تقيم أي وزن لمقدّرات البلد وطبيعته. هذا ما يسمّيه شربل نحاس في كتابه «اقتصاد ودولة للبنان» بـ«اقتصاد كومبرادور تركَّز حول بيروت كقطب تجاري يمارس هيمنة إقليمية».
ويرى قرم في كتابه، أن ميشال شيحا هو من روّج لهذا الفكر ممهّداً لوظيفة لبنان باعتباره «مركز تسوّق». يقول قرم إن الإصرار على نموذج مونتي كارلو أو دبي، رغم الفوارق وتجاهل جميع المتغيرات التي حصلت في المنطقة والعالم، هو أحد عوارض «الأمراض الاقتصادية والمالية الخطيرة» في لبنان. لاحقاً، تكرَّست هذه التوجهات في السياسات التي انتهجتها حكومات الرئيس رفيق الحريري وهو ما يسميه نحاس «اقتصاداً قائماً على النهب وإعادة التوزيع المقونَنَين». في الواقع، يستحق كتاب نحاس حيّزاً أكبر من النقاش العام بدلاً من الجدالات العقيمة عن خطط للكهرباء والنقل والتعليم وكأن لا ترابط بين هذه الأزمات، أو كأن مشاكلنا تقنية، أو أن لدينا نقصاً في الابتكار والخطط. لا حلّ لأي من أزماتنا قبل فهم أصل العلّة.

النظام الضريبي
هناك شعور عام في لبنان بأن الدولة مقصِّرة بحق الشعب، وفي الوقت نفسه هناك ريبة من موضوع الضرائب. نادراً ما نسمع ربطاً بين المسألتين وكأن لا علاقة بين الضرائب والخدمات. لماذا لا يطالب أحد من الزعماء بالضريبة العادلة التي يسمّيها قرم «المواطنية الضريبية» أو بـ«ضريبة على الثروة»، أي المطالبة بزيادة الضرائب حيث يجب، وهذا أكثر إنصافاً للفقراء من المطالبة بخفضها.

بالأرقام

316
مليار دولار هو ما دفعه اللبنانيون بين عامي 1993 و2019 ولم يحصلوا إلا على خدمات تمثّل 37%
1997
هي السنة التي وقع فيها الإفلاس بالفعل وهذا ما يمكن تبيّنه بسهولة في الجداول الاقتصادية التي أرفقها جورج قرم بكتابه
40%
هي الضريبة التصاعدية التي كان معمولاً فيها قبل الحرب الأهلية في ظل بيئة استثمارية نشطة
13
هو عدد السنوات بين عامي 1990 و2022، التي تخطى فيها الدين العام نسبة 150% من الناتج المحلّي


فالسياسة الضريبية في لبنان تقوم على تحميل المداخيل المنتجة العبء الأكبر، وتلغي الضرائب أو تخفّفها عن المداخيل الريعية مثل الفوائد المصرفية والقطاع العقاري. لكن ليس ذلك كلّه ما يجري تحميله على المداخيل، إذ يدفع العمال والموظفون ضريبة الدخل تلقائياً على شكل اقتطاع من أجورهم، بينما يتهرّب أرباب عملهم من أصحاب الشركات من الدفع. كانوا يدّعون أنه لا يمكن فرض ضرائب على القطاعين المصرفي والعقاري لأنهما القطاعان الوحيدان المزدهران. كذلك كانوا يقدّمون التسهيلات لأصحاب الثروات بذريعة أنهم يدعمون الاستثمار. لكن قرم يدحض هذا الادعاء، مشيراً إلى أن الإعفاءات الضريبية ليست هي ما يجذب المستثمرين، بل هي العنصر الأخير في قائمة جذب الاستثمارات. فالمستثمر يهمّه البيئة الإنتاجية الحقيقية، بدليل «أن الضريبة التصاعدية قبل الحرب كانت تصل إلى 40% وكانت البيئة الاستثمارية نشطة».
على مدى ثلاثة عقود، دفع الفقراء الحصّة الكبرى من الضرائب. ذهب معظمها لخدمة الدين (المصارف وكبار المودعين)، أي أن القطاع الذي حصل على التسهيلات باعتباره «مزدهراً»، كان يمتصّ كل الإيرادات بالفعل. يقول نحاس، إن اللبنانيين دفعوا بين عامي 1993 و2019 ما مجمله 316 مليار دولار، وحصلوا على خدمات تمثّل 37% مما دفعوه. الباقي ذهب معظمه فوائد دين وتوزيعاً زبائنياً. بحسب نحاس، دفع اللبنانيون فوائد لخدمة الدين العام توازي قيمة هذا الدين!
من ناحية أخرى، أدّت التسهيلات والإعفاءات الضريبية على القطاعين العقاري والمصرفي (كل ما لا يُنتج شيئاً للتصدير) إلى قتل الإنتاج المحلي. فمن جهة، عجزت الصناعة المحلية عن المنافسة مع السلع المستوردة. ومن جهة أخرى، لم تعد هناك حاجة إلى زراعة الأرض أو الاستثمار في مشاريع في ظل ما كان يوفّره المصرف والعقار من ربح سريع ومضمون. اليوم، يتم التصحيح بشكل لا إرادي بفعل الانهيار. تنشيط قطاعَي الزراعة والصناعة لا يكون بتحفيز الناس على زراعة المردكوش على الشرفات، بل هذا يرتبط بأحد جوانبه بفرض نظام ضريبي محفّز.
الترويج لفكرة أن الغاز سينقذ لبنان ليس إلا عملية شراء وقت، وبيع للأوهام. يطالبون بالاقتصاد المنتج ولا يعملون سوى على اقتصاد الريع المتهاوي بدلاً من بناء بنية إنتاجية بديلة، من زراعة وصناعة وتكنولوجيا وطاقة متجددة وغيرها من القطاعات، بالإضافة الى الخدمات والسياحة، لكن على قياس البلد وليس على قياس بقع جغرافية محدّدة ومصالح فئات محدودة.

المديونية بمفهوم السنيورة وسلامة
كان الرئيس فؤاد السنيورة يردّد أن الدين ليس مشكلة طالما أن نسبة النموّ أكبر من نسبة تزايد الدين. هذا صحيح، الولايات المتحدة الأميركية وهي أكبر اقتصاد في العالم تحتلّ المرتبة الأولى لجهة حجم الدين. أما في اليابان، ثالث أقوى اقتصاد في العالم، فتتخطّى نسبة الدين على الناتج المحلي ما نسبته 200%. بمعنى أوضح، ليست المشكلة في الدين، لكن ما يقوله السنيورة هو أن الفوائد في الولايات المتحدة الأميركية أقل من 5%. أما في اليابان، فقد ظلّت الفوائد لسنوات طويلة صفراً بالمئة، وهي الآن أقلّ من الصفر، أي أن الدين في هذه البلدان لا يشكل عبئاً على الاقتصاد والإيرادات فيها، وبالتالي لا تُهدر الإيرادات الضريبية وغيرها في خدمة الدين. السنيورة الذي ينظّر بأن الدين ليس مشكلة، كان يرفض خفض مستوى خدمة الدين في لبنان. يشرح قرم كيف أفضى هذا الوضع الى عرقلة تامة للنموّ الاقتصادي.
قبل أشهر، قال السنيورة في مقابلة إعلامية، إن «الأزمة في لبنان بدأت في عام 2011، حين تحوّل النموّ الاقتصادي الذي تحقّق في عامي 2007 و2010 إلى سلبي». بالطبع، السنيورة يقيس النموّ بمستوى تدفّق الودائع التي أتت يومها إلى لبنان هرباً من الأزمة المالية العالمية في عام 2008، مدفوعة بعملية البونزي الاحتيالية. لا يهمّ السنيورة إذا كانت الأموال تدخل لبنان لأننا نصدِّر بطاطا، أم لأننا نصدّر شباباً وشابات.
في الواقع، وقع الإفلاس عام 1997، ويمكن تبيّن ذلك بسهولة في الجداول الاقتصادية التي أرفقها قرم في كتابه والتي لا يصعب فهمها حتى للقارئ غير المتخصّص، إذ تقفز كل المؤشّرات المذكورة في جداول هذه السنة، بشكل ملحوظ. فعلى سبيل المثال، يمكن ملاحظة أن خدمة الدين في ذلك العام تخطّت لأول مرة الواردات المحصَّلة. في العام نفسه، هبطت السيولة في مصرف لبنان إلى أدنى مستوياتها. ثم، ما كانت الحاجة إذاً إلى باريس 1 وباريس 2، إذا كان الوضع بديعاً قبل عام 2011؟ تصاريح السنيورة نفسه، والتي يحرص على توثيقها على موقعه الإلكتروني، مليئة بالبكائيات على حال وضعنا الاقتصادي خلال ولاياته في وزارة المال وفي رئاسة الحكومة قبل عام 2011.
يحرص السنيورة كثيراً على تلميع صورته الإعلامية. يكفي الاطّلاع على ما أجاد به على نفسه من إطراء على ويكيبيديا (من الواضح أنه كتب المادة عنه، بنفسه) لتُصاب بهيستيريا من الضحك أو البكاء ربما، منها مثلاً أنه «يُنسب إلى سياسته الاقتصادية الفضل في بقاء لبنان بعيداً عن مشاكل الأزمة الاقتصادية العالمية». هل شكرتموه؟ كذلك يدّعي بأنه هو من اقترح وأشرف على تنفيذ الضريبة على القيمة المضافة، وهذا مجافٍ للحقيقة كما يتبيّن من تأريخ قرم لتلك المرحلة. يقول قرم إنه أول من اقترح إدخال هذه الضريبة فيما السنيورة عارضها في حينه قبل أن يتبنّاها لاحقاً عند تسلّمه الوزارة مجدداً. لا تذكر صفحة ويكيبيديا أن حريقاً شبَّ في وزارة المالية في آب 1998، فور ترك السنيورة الوزارة وقبل تسليمها لمعارض له. يا للصدفة. قضى الحريق يومها على كثير من الملفات.
ينصح السنيورة في المقابلة «بعدم التلهي بالماضي وعدم التركيز فقط على ما حصل وأسبابه وعلى من تقع المسؤولية، بل يجب النظر أيضاً وبذات المقدار إلى المستقبل». يفترض أن نقدم وعداً للسنيورة بالنظر إلى المستقبل، لكن لن نتوقف عن نكش الماضي والمسؤوليات التي يحمل وزر جزء كبير منها.
لا ذكر في كتاب قرم للسنيورة أو للحريري أو للحريرية بالاسم بل هو يستخدم عبارات «السياسات والحكومات الإعمارية» أو «الإدارة النقدية والمالية التي تسلّمت زمام الأمور بين 92 و98». إلى جانب توثيق يومياته وتجربته في وزارة المال التي لم تستمر سوى 22 شهراً، يمكن اعتبار هذا الكتاب مرجعاً مهمّاً وشاهداً على تاريخ الإفلاس في لبنان. مثلاً، بعكس ما تدَّعي المصارف بأنها دخلت في لعبة شراء سندات خزينة مرغمة، يؤكّد قرم أن المصارف كانت بحاجة متواصلة إلى هذه السندات للحفاظ على سعر أسهمها في البورصة. ثم، إذا كانت هذه المصارف دخلت في لعبة الدين قسراً، كما تدعي، لماذا إذاً، عندما جاءت حكومة معارضة للنهج السابق لم تتعاون، وعندما طلب منها وزير المال (قرم) خفض الفوائد، رفضت؟
يعترف قرم بأن «معركة خفض الفوائد ولجم الدين العام كانت معركة مصيرية لا بدّ منها لإنقاذ اقتصاد البلاد من كارثة محتومة». وهو بالفعل وجّه رسالة إلى حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بهذا الاتجاه، إلا أن الأخير لم يرد على وزير المال! سلامة رفض. كذلك طلب قرم منه أن يَحضر ممثل عن الوزارة جلسات فض عروض المصارف في مناقصات سندات الخزينة بالليرة، بحجّة السريّة المصرفية. الآن بتنا نعرف أن سلامة كان يريدها أهلية بمحلية بينه وبين المصارف.
استمرّ المصرف المركزي بإصدار سندات خزينة أكثر من حاجة الدولة، مكلّفاً الخزينة نصف مليون دولار يومياً، بحسب قرم الذي يضيف أن ميزان المدفوعات في حينها لم يكن يعاني أي عجز في ذلك الوقت. بمعنى آخر، أصبح تراكم السيولة عبئاً، إذ يترتّب عليه كلفة، ولا منفعة اقتصادية منه. كنّا نستدين من دون حاجة، إلا لتحقيق ربح سريع ومراكمة الثروات في يد حفنة من اللصوص. لم يمضِ قرم في معركته، وهو يعترف بأنه بذلك «كرَّر شواذاً مالياً مكلفاً». يبرّر قرم تراجعه بأن أي مواجهة كانت لتؤدي إلى هزّة مالية، وأن مناخ البلاد لم يكن يحتمل مجابهة القطاع المصرفي. يعلّل الأمر بأن إحدى الصحف عنونت أن استمرار خفض الفوائد قد يؤدي إلى إفلاس بعض المصارف. يكرّر قرم في أكثر من موضع في الكتاب بأنه كان يخشى أن يتم استغلال معارك غير محسوبة من هذا النوع للتسبّب باهتزاز الثقة وبانهيار سعر الصرف، فيعود بعدها رفيق الحريري إلى الحكم مجدداً كمنقذ! لم يمضِ قرم بمعاركه وعاد الحريري في جميع الأحوال.

الدعم الخارجي
يصطدم الإصلاح أيضاً بتقاطع مصالح حيتان المال مع المصالح الخارجية، فالفساد بيئة حاضنة للإملاءات، والخارج لا يردعه فسادٌ متى كانت مصالحه مؤمّنة. السياسات الحريرية كلُّها حظيت بدعم خارجي وبمباركة البنك الدولي وصندوق النقد. أما حكومة الحص، بحسب ما ورد في كتاب قرم، فلم تؤيّدها فرنسا، بل يشير إلى أن بعض الإجراءات الفرنسية كانت أشبه بالعقوبات، ملمِّحاً إلى دور ما، قد يكون الحريري لعبه مع صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك. ويقول الحصّ في مذكّراته، إنه شعر بتلكّؤ عواصم القرار في العالم عن دعم حكومته. كذلك يذكر قرم كيف تراجع البنك الدولي عن تقديم 800 مليون دولار على شكل قروض على أربع سنوات مشترطاً دخول لبنان في برنامج مع صندوق النقد، لكن قرم رفض.
أفضل من يعبّر عن الوجه الحقيقي لصندوق النقد هو الوزير اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس. في محاضرة له مع المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، يروي فاروفاكيس تفاصيل اجتماعاته مع موظفي الصندوق حين كان يفاوض لشطب جزء من ديون اليونان. يقول إنه قدّم لرئيس الدائرة الأوروبية في الصندوق، بول تومسون، عرضاً على نسق وول ستريت. أي أنهم لم يكونوا يتوقعون من وزير مال يساري عرض كهذا.

سلامة رفض طلب قرم بأن يَحضر ممثل عن وزارة المال في جلسات فضّ عروض مناقصات سندات الخزينة لأنه كان يريدها أهلية بمحلية بينه وبين المصارف

أعطاهم العرض لأنه كان يسعى للتوصّل إلى اتفاق مقبول وليس للصدام معهم، فأجابه موظف الصندوق بأن عرضه متواضع جداً، إذ ينبغي شطب قسم كبير من الديون فوراً. يكمل فاروفاكيس أن الموظفين على مستوى معين داخل الصندوق، يعترفون بمسؤوليتهم، حتى إنهم قد يحاولون تصحيح المسارات، لكن عندما وصل الأمر إلى الاتفاق الأخير، تكتّل الدائنون وبدأوا يحاربون حكومته بالتضليل والشائعات. يروي فاروفاكيس أن مسؤولاً أرفع من تومسون (لا يحدِّد من هو لكنه يلمِّح إلى أنه رئيس الصندوق) قال له: «إن هذه السياسات التي نفرضها عليكم لا تصلح، لكن عليك أن تفهم أننا استثمرنا كثيراً في السياسة ولا يمكننا التراجع الآن. ومصداقيتك تتوقف على القبول بشروطنا».
رواية فاروفاكيس لها صداها في النقاشات اللبنانية مع صندوق النقد، إذ يبدو الصندوق أكثر حرصاً على الشعب اللبناني من مفاوضيه، لكن ذلك قد لا يسري في النهاية على الاتفاق الأخير، لو حصل.

الإصلاح من فوق؟
فعلياً، لا يمكن القيام بالإصلاح المالي من دون تحديد وظيفة اقتصادية جديدة للبنان. علينا العودة إلى ألف باء الاقتصاد، وبناء اقتصادنا من الصفر، أي من الاقتصاد بما هو، كما يقول نحاس «شكل محدَّد لتوزّع عناصر الإنتاج المتوافرة فيه، أي العمل الحيّ أولاً، ثم مخزون الموارد». أي اقتصاد يعتمد على قدرات أبناء البلد ومقدّراته الفعلية، وليس على صورة متخيّلة له لا ترتكز على واقعنا وموقعنا وتفاعلنا مع محيطنا.

يروي يانيس فاروفاكيس أن مسؤولاً في صندوق النقد الدولي أبلغه أنه يدرك بأن ما يفرضه الصندوق على اليونان لا يصلح إنما «استثمرنا كثيراً في السياسة»


يقول الوزير السابق الياس سابا في مقابلة له مع «الأخبار»، إن الإصلاح من فوق يفشل دائماً في لبنان لأن هناك قوّة اقتصادية، أو حيتان مال يتحكّمون بالقرار السياسي». هم فعلياً تكتّل من المصالح المالية التي يحميها زعماء الطوائف. كما راهنت الحريرية في بدايتها، على السلام ثم على التوطين، يراهن اليوم زعماء الطوائف على رغبتهم مجتمعين في الحفاظ على تماسك النظام. نهج الحريرية هو الغراء الذي يثبت دعائم هذا النظام المتهاوي. لذا، يعتزل وريث الحريرية السياسة فيصبح نجيب ميقاتي مطلباً لخصومه قبل حلفائه. وغداً، بذريعة عدم إفراغ المواقع المسيحية، سيكتشفون فجأة أن لا بديل من رياض سلامة. في رهانهم على سكوت شعبنا عن هذا الذلّ والظلم تكمن مأساتنا. لذا، سيظلّ الإصلاح المالي مخاضاً عسيراً.